دليل غير مكتمل لدراما أكثر نسويّة


الدراما النسوية كما أفهمها توّفر تمثيلاً أفضل للنساء، تبني على فهم لعلاقات القوة والبنى الاجتماعية، تشتبك مع هياكل السلطة، وتتبنّى نظرة تقاطعية مركّبة. لا تقف إذاً عند بطولة نسائية تعيد إنتاج أو ترسّخ صوراً نمطية ذكورية واضحة أو مقنّعة، ولا تقصي أي فئة أو طبقة من النساء. بالإضافة لذلك، تعني الدراما النسوية، وتمثل، وتتجه للأنواع الاجتماعية كافة.

02 أيار 2023

فرح يوسف

باحثة سورية ونسوية مدافعة عن حقوق الإنسان. حاصلة على شهادة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية وعلى درجة الماجستير في علم الاجتماع. يركز عملها بشكل أساسي على المواطنة والنسوية والمسارات المهنية والمشاركة السياسية للنساء واللاجئين/ات في المجتمعات المضيفة.

امتنعت عامدة هذا العام عن قراءة مراجعات المسلسلات الرمضانية التي قاربتها نسوياً. ليس لأنها مراجعات غير جيدة وضرورية، إلا أنني تابعت الشأن المصري واللبناني والسوري على مدار العام، ولم أرصد ما قد يقود إلى تغيير جذري في شكل الدراما الرمضانية. لم تصدمني بأيّة حال القيم والصور النمطية التي روّجت لها الدراما هذا العام أيضاً، ووجدت نفسي أفكر بما يمكن فعله، حتى لا نجد أنفسنا مجبرات في العام القادم، وما سيتبعه، على إمضاء ساعات في مشاهدة أعمال ذكورية وانتقادها. 

إذا اتفقنا أنّ الخطوة الأولى لحلّ المشكلة هو تشخيصها، فأعتقد أنّ عديداً من الصحفيات والمدونات والنسويات شخصنّ الدراما العربية بذكورية مزمنة. ابتداءً بالمواضيع المطروحة، مروراً بالصور النمطية والتسليع الجنسي، وصولاً إلى الترويج المتعمّد وغير المتعمّد لقيم تشجّع العنف المبني على النوع الاجتماعي بمختلف أشكاله. فهل لدينا خارطة طريق نحو دراما أكثر نسوية؟

لا أهدف هنا لفرض وصاية نسوية على الدراما، ولا أقترح وحدة توجيه معنوي نسوي، إنما هي محاولة لفتح نقاش حول ما يمكننا فعله كنسويات ومؤسسات نسوية في الطريق نحو دراما أكثر نسوية.

هي النسوية يلي بدكن ياها؟

كنت سأستهل المادة بالحديث عن أهمية الدراما النسوية، لكنني لا أشعر برغبة أو حاجة لتبرير أو شرعنة أعمال لا تهلّل للعنف والرجعية، ولا تؤّسس لاستمرار البنى القمعية في المجتمع والسلطة. أريد أن أنطلق من بداهة أننا نستحق تمثيلاً عادلاً في الأعمال التي تدخل كلّ البيوت، وتلقى تشجيعاً وتعاطفاً من كلّ طبقات المجتمع.

الدراما النسوية كما أفهمها توّفر تمثيلاً أفضل للنساء، تبني على فهم لعلاقات القوة والبنى الاجتماعية، تشتبك مع هياكل السلطة، وتتبنّى نظرة تقاطعية مركّبة. لا تقف إذاً عند بطولة نسائية تعيد إنتاج أو ترسّخ صوراً نمطية ذكورية واضحة أو مقنّعة، ولا تقصي أي فئة أو طبقة من النساء. بالإضافة لذلك، تعني الدراما النسوية، وتمثل، وتتجه للأنواع الاجتماعية كافة.

شكرًا أم كامل!

ياز |
24 حزيران 2022
في جزءٍ من العالم تُشنّ اليوم، حرفيًا، حملات اعتقال على أيّ شيءٍ مطليٍّ بألوان قوس قزح، يحظر فيلم "رسوم متحركة" لوجود قبلةٍ فيه بين شخصيتين من نفس الجنس، وتُطلق حملاتٍ...

قد يبدو هذا التعريف كأنه يضع على كتف الدراما أحمالاً لا تعنيها، وينطلق من نظرة لا تميّز بين الواقع والخيال. هذا ليس بالضبط ما أرمي إليه هنا، لكنّ في سياق منطقتنا، تنبع أهمية الدراما النسوية من ضيق هوامش المناصرة المحلية، ومساحات الحوار النسوي الواسع، هذا الواقع يُحمّل الدراما مهاماً ليست مهامها بالضرورة. كذلك، تشكّل الدراما النسوية والعلاقة بين الحركة النسوية وصناعة الدراما فجوة بحثية أو نقطة عمياء في الأبحاث في منطقتنا. بالمقابل، نجد أنّ سؤال التمثيل شغل المنظّرات النسويات في الغرب، وعلى رأسهنّ بل هوكس (bell hooks). في كتابها 'نظرات سوداء: العرق والتمثيل' (Black Looks: Race and Representation) تُسائل هوكس السرديات القديمة، وتجادل حول طرق بديلة لتمثيل السواد (blackness)، الذاتية السوداء، والبياض. تركز هوكس على التمثيل في المحتوى المرئي على وجه الخصوص، الطريقة التي يتم بها التعاطي مع السواد والسود في الأدب والتلفزيون والسينما، وتهدف عبر كتابها لإحداث هزّات عنيفة تقود إلى تغيير جذري في الطريقة التي نرى فيها السواد في السينما. كذلك، اشتبكت العديد من النسويات مع أعمال نتفلكس، وأولينها الأهمية المتناسبة مع أثرها، خاصة وأنّ نتفلكس من المنصات التي تضع سؤال التمثيل في المركز وتلتزم به.

لا تأخذ الدراما النسوية دور الناصح أو الواعظ، إنها تعني ببساطة أن أرى نفسي كامرأة، وأن أرى قضاياي ومشاكلي وأحلامي وصورتي الحقيقية على الشاشة. أي ألّا أشعر أنّي سلعة جنسية، وألّا أُقابل بذات اللغة المتحيّزة المحتقرة للنساء والهوموفوبية والترانسفوبية، تُبثّ في كلّ البيوت. ألا أشاهد البنى القامعة يُحتفى بها وتحظى بملايين المشاهدات دون أيّة مساءلة أو تحدّي أو تسمية فاعلين ومسؤولين. الدراما النسوية ببساطة تعترف بالتمثيل بهدف التمثيل، وإعطاء صوت وصورة، ببساطة أيضاً، لأجل الحق بامتلاك صورة وإيصال صوت.  

كلّ سنة هناك عمل يحمل نَفَساً نسوياً، ويأخذ مساحة واسعة من الجدل والنقاش المجتمعي. من أبرز أعمال هذا العام مسلسل "تحت الوصاية"، وهو عمل مصري يعالج، كما يشي اسمه، قضية الوصاية على الأطفال بعد وفاة الأب. حصد العمل تفاعلاً كبيراً على وسائل التواصل الاجتماعي، وأفردت صحيفة الغارديان مقالاً للحديث عن الظلم الذي تتعرض له النساء كما طرحه العمل، وتنتشر أخبار حول وصول هذه النقاشات إلى البرلمان المصري لاقتراح تعديل قانون الوصاية.

للدراما التلفزيونية معايير مختلفة عن السينما، وبالتأكيد مختلفة عن الأكاديميا، فالعنصر الأساسي فيها هو الإمتاع. لا يعني الإمتاع غياب العمق والمعنى، إنما إيجاد المنطقة الوسطى التي لا تجلد المشاهد/ة أو تربكه/ا، ولا تستخف به/ا أو تهينه/ات في الآن ذاته.

هذه الأعمال المناصرة للنساء ليست ظاهرة حديثة؛ في الحالة السورية مثلاً، كانت قضايا النساء ترافقنا كلّ عام قبل أن تنهار صناعة الدراما مع ما انهار سورياً. تشتّت أصحاب المشروع الذين كانوا يصنعون هذه الدراما، ويقدّمون قضايا النساء بواقعية ومسؤولية جعل إعادة إنتاج هذا المشهد محفوفة بالتحديات. 

كنسوية سورية أدين للدراما بتعريفي بقضايا ومفاهيم لم أكن لأسمع عنها لولاها كمراهقة من الطبقة الوسطى. كنت في الرابعة عشر حين سمعت للمرة الأولى عن الاغتصاب الزوجي على لسان الممثلة، كاريس بشار، في مسلسل "على حافة الهاوية"، وغصت في ثغرات قانون الأحوال الشخصية في "عصي الدمع"، وقدمت لي أعمال مثل "البيوت أسرار" نظرة عميقة ومركبة على حياة "السنغل مام" في حلب، فلا أفهم اليوم لماذا يقابلني الكثير بابتسامة بلهاء ودعابة "أمرك ابن عمي" التي التصقت بالسوريات التصاق بشار الأسد بنا؟!

على الرغم من تغيّر السياق، وتعدّد مصادر المعلومات وتشكيل الوعي والتأثير فيه، ما زالت الدراما، والدراما الرمضانية على وجه الخصوص، تلعب هذا الدور، وتُستخدم بشكل قصدي ومسيّس. ومع انتشار منصات مثل "نتفلكس" و"شاهد" وغيرها، عادت الدراما لتكسب فئات كانت قد خسرتها للإنتاج الغربي أو "الأجنبي" مع التمسّك بقالب الثلاثين حلقة.

إذا كان كلّ شيء يتبدّل، فعلى السرديات أن تتكيّف، وتنتج سرديات بديلة. السرديات البديلة التي أعنيها هنا تواجه السرديات الراسخة، بما فيها سردية "نكد" النسويات والقضايا النسوية. الواقع أنّ الحركات النسوية العربية تتفاعل في واقع يحشرها في زاوية النجاة، يحوّلها إلى "نسوية عارية" بالإذن من جيورجيو آغامبن وباقتباس تنظيره حول الحياة العارية أو الحياة البيولوجية المجردة من السياسة، إلا أنّ الكتابة النسوية تشمل طيفاً واسعاً من القضايا، ولا تقتصر على طبقة أو فئة، وبالتأكيد ليست حكراً على النساء، فالنسوية تتعاطى مع بنى ذكورية تضطهد الرجال كذلك، وتشتبك مع أسئلة مثل التغيير المناخي والتحوّل الديموقراطي والعلاقات الدولية.

دراما كويريّة سوريّة

19 آب 2022
في هذه المادة والرسومات، يعود بنا الفنان طارق السعدي بالزمن إلى الجيل الذهبي للدراما السوريّة، مسلطًا الضوء على بعض "الشخصيات الكويريّة" التي ظهرت في مسلسلات تابعناها وأحببناها، ولكن "يمكن انتست"....

الاشتباك الواعي والمركّب مع ثيمات مثل الأبوة والأمومة، بطولات لشخصيات تجاوز أعمارها الستين، أعمال تنطلق من المخيمات دون وصم سكانها، كلها أمور نحتاجها كمتابعين/ات للدراما العربية ونفتقدها في الظرف الإنتاجي الحالي.

ما تحتاجه الدراما النسوية في المنطقة إذاً هو مقاربة متعدّدة الطبقات، تنشغل بسؤال التمثيل، تمثيل النساء وقضاياهنّ، الأدوار الاجتماعية، علاقات القوة، وبرؤية تقاطعية.

التغيير من الداخل

تعلمت الكثير من النسويات بالطريقة الصعبة أن يحذرن مسار التغيير الذي يبدأ من الداخل. ليس من الحكمة أن نستهين بمقدار الطاقة والوقت الذي نحتاجه لإحداث هزّة صغيرة في عقلية مؤسسة لا تؤمن بالحاجة للتغيير. هل أتواصل مع محمد قبنض، رئيس مجلس إدارة شركة قبنض للإنتاج والتوزيع الفني، لأعرض عليه نسخة أكثر نسوية من مسلسل "باب الحارة"؟ يبدو الأمر عبثياً تماماً، لكنّه بالفعل أحد الحلول الممكن طرحها ومناقشتها.

إذا أخذنا أمثلة أقلّ تطرّفاً، وسعينا لبناء تحالفات مع منتجين أكثر انفتاحاً وإيماناً بالبعد الاجتماعي للدراما، من الممكن أن ننجح بإقناعهم بتبني نصوص نسوية لإنتاجها. قد لا يعني الأمر تقديم نص كامل، إنما إرسال سيرة ذاتية أو اقتراح تعاون مؤسساتي مع شركات الإنتاج.

أتابع في هذه السنة مسلسل "تغيير جو"، يقدم العمل صورة لعلاقة عاطفية أصابتني والعديد من صديقاتي بالفزع. يبدأ البطل باقتحام مساحة البطلة الشخصية فيزيائياً فور لقائه بها، لا يكف عن إملاء قواعده وتصوّراته على البطلة، يعلّمها كيف يجب أن تفكر وتتحدث، ولا يتردّد في أخذ هاتفها في وسط غابة بعد يومين من تعارفهما، وتمرّ معلومة أنّ امرأة قبلها هربت بابنها منه مرور الكرام في عشاء رومانسي. الأمر الوحيد الذي ينهي هذه العلاقة هو ظهور زوجة البطل الحالية. وددت لو أرسلت رسالة أستفهم فيها عن الذي شعر أنّ الترويج لهذه "الرومانسية" السامة والخطرة فكرة جيدة. ثم شعرت برغبة بإرسال سيرتي الذاتية معنونة بمستشارة جندرية، مرفقة باقتراح عن خط درامي نسوي ممتع ورومانسي ولا يُشعرني مع صديقاتي بالفزع على البطلة، ويعيد لنا كلّ ذكرياتنا عن العلاقات التي لم نتعاف منها بعد. 

هذه الرغبة تبني على افتراض أنّ المنتج لا يعرف، وأنه منفتح بالفعل على تغيير السردية التي يتبناها العمل، وتتطلب قدراً من الإقناع "التجاري" أو الدفاع عن الجدوى الاقتصادية للعمل، ولفت نظره لمعايير السوق التي لا يراها ويستهدفها على اتساعها، وخطورة الالتزام الرتيب بما يطلبه سوق واحد محدود، خصوصاً مع العمل النسوي الساعي لإصلاحات هيكلية قانونية. ولا أقترح طرحاً بعيداً عن الاتجاه السينمائي والدرامي العالمي، كنت لأذكر في مقابلة العمل أعمالاً مثل "The Handmaid's Tale" و "Big Little Lies" و "Little Fires Everywhere" و "Killing Eve" و "The Marvelous Mrs. Maisel"، التي قدمت بطولات نسائية وحققت مشاهدات وتفاعلاً عالمياً ملفتاً.

الحقيقة أنّ النسوية التقاطعية، التي تنطلق من تشابك مكونات الهوية السياسية والاجتماعية مثل النوع الاجتماعي والعمر والدين والعرق والقومية والطبقة وغيرها عدسة ممتازة لرصد وبناء شخصيات درامية مركبة ومتعدّدة الأبعاد، بتحديات غير متوّقعة وإحداث دفعة متنوعة الشدّة والتأثير.

يتوقف نجاح هذه الفكرة على توفير نصوص جذابة تبتعد عن الوعظ المنهك للمشاهدين/ات. للدراما التلفزيونية معايير مختلفة عن السينما، وبالتأكيد مختلفة عن الأكاديميا، فالعنصر الأساسي فيها هو الإمتاع. لا يعني الإمتاع غياب العمق والمعنى، إنما إيجاد المنطقة الوسطى التي لا تجلد المشاهد/ة أو تربكه/ا، ولا تستخف به/ا أو تهينه/ات في الآن ذاته. أنطلق في هذا التفسير من افتراض لا أتفق معه، بأنّ الأعمال النسوية أعمال "جادة" تفتقر للمتعة. أرفضه أولاً لغياب قاعدة تنصّ على أنّ جودة العمل فنياً تتناسب طرداً مع ذكوريته، وتفشل كثير من الأعمال المغرقة في سطحيتها أو أبويتها في إمتاع المشاهدين/ات أو فتح نوافذ من الخيال أو التعاطف أو الحلم عندهم/ن، وثانياً لأننا لم ننتج في الأعوام العشرة الماضية عدداً يسمح بهكذا تعميمات حول الأعمال النسوية. من الأمثلة على أعمال نسوية وضوحاً، مسلسل "ليه لأ" في جزئه الثاني، والذي تمحور حول فكرة التبني للأم العزباء وهو ما يتيحه القانون المصري ضمن ضوابط. كان العمل مشوّقاً وحقق تفاعلاً كبيراً، ولم يكن مملاً أو "نكدياً"، ولا أقول أنه عمل مثالي، لكنه من الأعمال التي تُضاف إلى مسيرة مريم نعوم، الحافلة بالأعمال النسوية مثل "سجن النسا"، و"ذات" التي مثّلت قضايا نسوية ونسائية من منظور مركب ومتقاطع.

بالإضافة إلى النصوص، لا تملك النسويات رفاهية النأي بالنفس عن الإخراج كذلك. يملك المخرجون/ات صلاحيات تؤثر على التمثيل والسردية، فمهما كان النص نسوياً، يمكن لمخرج/ة ذكوري/ة تحويله إلى حجر إضافي في بناء الدراما المعادية للنساء والأنواع الاجتماعية المختلفة. وينبغي النظر لهذه الأفكار على أنها خطوات أولية، يجب أن تخضع للتجريب والتعديل وتتكيّف مع تجاربها قبل اتخاذ موقف حاسم منها.

من المحاذير المطروحة هنا المساهمة عن غير عمد في الغسيل البنفسجي للأنظمة وبعض شركات الإنتاج، وحتى المخرجين والممثلين. الاكتفاء بإنتاج عمل نسوي واحد لشرعنة الأعمال الأخرى، بعد الحصول على "صك نسوية". الحل لعزل هذا الخطر تماماً هو بالابتعاد عن الشر والاتجاه لخلق مسار بديل تماماً. 

مسارات بديلة

في الوقت الذي يبدو فيه تأثير الدراما الحالية متجذّراً، والشركات الإنتاجية مهيمنة، فلنأخذ خطوة إلى الوراء، ونفكر كيف يمكن أن نخلق مسارات موازية وبديلة، تتحدى ما يروّج له وتستقطب جماهيره. 

الحقيقة أنّ النسوية التقاطعية، التي تنطلق من تشابك مكونات الهوية السياسية والاجتماعية مثل النوع الاجتماعي والعمر والدين والعرق والقومية والطبقة وغيرها عدسة ممتازة لرصد وبناء شخصيات درامية مركبة ومتعدّدة الأبعاد، بتحديات غير متوّقعة وإحداث دفعة متنوعة الشدّة والتأثير. الصراعات الداخلية والصراعات مع المجتمع والبيئة المحيطة بالأبطال مؤرشفة وموثّقة ومبحوثة، وهي مادة خصبة لكلّ أشكال الكتابة الدرامية، من الدراما الاجتماعية إلى الكوميديا والرعب والتشويق. إذا ما أضفنا لكلّ ذلك بعداً إقليمياً، فسنجد أنفسنا أمام بحر لا نهائي من الاحتمالات التي تنتظر من يكتبها ويمثلها وينتجها، وبالتأكيد من يتابعها ويجد نفسه/ا فيها.

لا أدّعي أنّ مهمة كهذه ستكون سهلة في منطقتنا. فإذا نجحنا في تجاوز اعتبارات الرقابة والأمن المباشرين من السلطات الحاكمة والمحتكرة للسرديات، والمقاومة المجتمعية لهكذا قضايا، فإننا نصطدم بجبل التمويل. نتحدث هنا عن واحدة من أكثر الصناعات تكلفة، تتجاوز الملايين للعمل الواحد، لكن متى كانت الصعوبة عاملاً لاستسلام النسويات؟

هناك عدّة طرق لتمويل الدراما النسوية في منطقتنا. المنح، التمويل التشاركي، رعاية المشاريع، المنح الحكومية، الفعاليات الجمعية، كلّها طرق فعالة لجمع التمويل اللازم لإنتاج الدراما النسوية. هذا الموضوع لديه كلّ ما يجعل عيون الكثير من المانحين تلمع: تمثيل أكبر للفئات المهمشة، تحدّي البنى المهيمنة في المجتمع، خلق سرديات أكثر عدلاً، المضي باتجاه المساواة، والترويج لقيم أكثر انفتاحاً وشمولاً. وكما تتجه صناعة الدراما إلى الخروج تدريجياً من النطاق المحلي إلى الإقليمي، يبدو منطقياً تماماً تنفيذ مشاريع درامية نسوية إقليمية.

لسنا مضطرات في البداية لإنتاج أعمال تكلف ملايين الدولارات، الاتجاه لأعمال محلية تنطلق من مشاريع صغيرة لمحو الأمية التقنية والإنتاجية، والبناء عليها والتوّسع في تسويقها قد يكون خطوة أولى، من جهة تساهم في إنتاج درامي نسوي يعمل كمحرّك للتغيير، ومن جهة يفتح نافذة في وسط لا تتواجد فيه النساء بذات كثافة تواجد الرجال، وتستفيد من تمكين اقتصادي موازي. 

أسطورة "زوزو": من "الجو" في أحياء دمشق إلى "عطيات" على المسرح السوري

16 كانون الأول 2022
في هذا النص، يأخذنا الكاتب إلى سبعينات وثمانينات سوريا ويحاول إعادة تركيب تاريخ لشخصية مثلية لانمطية التعبير الجندري كانت قد عرفت في أحياء دمشق وضرب فيها المثل: زوزو. من خلال...

بالإضافة للتحديات الخارجية، هناك بالطبع تحديات مرتبطة بالتعاون والتنسيق العابر للحدود بين النسويات والمؤسسات النسوية. لا مجال هنا للتوّسع في الحديث عن هذه التحديات، إلا أنها حاضرة في أيّ نقاش عن عمل نسوي مشترك وجامع. 

من النماذج الممكن ذكرها والبناء عليها هنا مسلسل "بدون قيد" رغم اختلاف موضوعه والسياق الذي دفع صناعه لإنتاجه. أطلق العمل على يوتيوب عام 2017 كمحاولة لكسر الرقابة والقطيعة المفروضة على الإنتاج الدرامي السوري. ملايين المشاهدات كانت حصيلة تقديم العمل بقالب جديد، وبحلقات لا تتجاوز الدقائق الأربعة، وبطرح مباشر لكنه بحسب تعبير كاتب العمل رافي وهبي: "محاولة جادّة لتقديم دراما تلفزيونية سورية واقعية وجريئة، وبطبيعة الحال لا تتنازل عن مهمتها الأساسية وهي التسلية والترفيه”. 

من المهم عند الحديث عن سرديات بديلة التنويه إلى أنّ الدراما النسوية لا تعني بأي شكل من الأشكال أمثلة النساء وتصويرهنّ كملائكة، أو كضحايا دائمات. على العكس، تدافع الدراما النسوية عن حق النساء في أن تكنّ مختلفات، ومتحرّرات حتى من المثالية. ما تضيفه الدراما النسوية هو طبقة سميكة من السياق، تسييق التمثلات المختلفة للنساء، فيكون الانحياز انحيازاً إيجابياً من ناحية التمثيل الموضوعي. ولا بد هنا من تأكيد أنّ الدراما النسوية ترفع شعار الشخصي سياسي عالياً عالياً.  

السياسات العامة دائماً وأبداً

العمل مع صانعي/ات السياسات استراتيجية هامة للنسويات في الترويج للمساواة بين الجنسين وتحدّي المعايير الأبوية في صناعة الدراما التلفزيونية. حيث إنّ صانعي/ات السياسات لديهم/ن القدرة على صياغة الأطر القانونية والتنظيمية التي تحكم الصناعة، كما أنّ لهم/ن تأثيراً في توزيع الموارد والتمويل، خصوصاً في دول منطقتنا التي تحكم فيها الأنظمة مصادر تشكيل الوعي الجمعي والتأثير فيه، وعلى رأسها الدراما التلفزيونية.

يشمل الانخراط مع صانعي/ات القرار مجموعة من الاستراتيجيات، بما فيها اللوبيات وحملات المناصرة والحشد ورفع الوعي العام. يمكن للنسويات العمل مع المنظمات غير الحكومية وغيرها من المنظمات المجتمعية لتطوير مقترحات السياسات والدعوة لتبنيها. كما يمكنهن التواصل مع صانعي/ات القرار مباشرة، من خلال الاجتماعات والمنتديات العامة وغيرها من قنوات الاتصال التي تضيق أو تتسع حسب الدولة التي نتفاعل فيها.

واحدة من الأهداف التي يمكن للنسويات أن تسعى لها من خلال التفاعل مع صانعي/ات السياسات هي المناصرة للسياسات التي تعزّز تمثيل النساء في وسائل الإعلام والفنون. ويمكن أن تشمل هذه السياسات حصص جندرية أو كوتا لتمثيل النساء أمام ووراء الكاميرا، وسياسات توفير التمويل والموارد للإنتاجات التي تقودها النساء. كما يمكن للنسويات المناصرة للسياسات التي تشجع وسائل الإعلام على منح الأولوية للقصص التي تعزّز المساواة وتتحدّى البنى القائمة في المجتمع.

من الجوانب التي تتطلب تعاوناً بين النسويات والمؤسسات النسوية من جهة، وصانعي السياسات من جهة أخرى، هو تعزيز الوعي الإعلامي. ويعرّف الوعي الإعلامي بأنه القدرة على الوصول إلى الوسائط وتحليلها وتقييمها وإنشائها بأشكال متنوعة. الوعي الإعلامي يشجع المشاهدين/ات على تحليل ونقد الدراما التلفزيونية من خلال طرح أسئلة من نوع "ما هي الرسائل التي ينقلها هذا العرض؟" و "من يتم تمثيله/ا في هذا العرض ومن يتم استبعاده/ا؟". من خلال الانخراط النقدي في الدراما التلفزيونية، يمكن للمشاهدين/ات تحديد القيم والمعايير الأبوية التي يكرّسها العرض وتطوير فهم أعمق لكيفية تشكيل هذه القيم والمعايير للعالم من حولهم/ن.

تعزيز محو الأمية الإعلامية ضروري لمزيد من الأعمال الدرامية التلفزيونية النسوية لأنّ مهارات محو الأمية الإعلامية تمكّن المشاهدين/ات من تحليل ونقد الرسائل والتمثيلات التي تنقلها الدراما التلفزيونية، وتساعد في بناء تحالفات نسوية أكثر استعداداً للمطالبة بالتغيير ومحاسبة صانعي الدراما على القيم التي يروّجون لها. كلّ هذا يحتاج لموارد وتمويل، والتزام من القطاع التعليمي والإعلامي وجهوداً متكاملة لإحداث تغيير ممنهج ومستدام.

جزء من هذا النضال يتضمن أيضاً المناصرة للسياسات التي تعزّز المساواة بين الجنسين في التعليم والتوظيف. على سبيل المثال، السياسات التي تعزّز المساواة في الوصول إلى التعليم للفتيات والنساء، يمكن أن تساعد في زيادة عدد النساء اللاتي يدخلن صناعة الدراما التلفزيونية وغيرها من المجالات الإبداعية. وتساعد السياسات التي تعزّز المساواة بين الجنسين في مجال العمل في ضمان عدم التمييز ضد النساء في عمليات التوظيف والأجور وقرارات الترقية في وسط تنافسي ما زالت النساء تتلمس طريقها فيه.

محاذير العمل مع الحكومات العربية معروفة ومفهومة، وخطر إضافة طبقة قمع جديدة إلى كعكة البولسة العربية موجود، لكن ما نتحدث عنه هو شأن سياسي بالدرجة الأولى، والتغيير الممنهج يتطلب بنية قانونية تدعمه وترعاه وتحمي تقدمه من الانتكاس، وهو ما لا يمكن أن يتم دون انخراط مع صانعي/ات القرار بمختلف مستوياتهم/ن. 

كل ما سبق لا يدّعي أنه عصا سحرية لإنتاج دراما نسوية أو أكثر حساسية جندرية، إنما هي محاولة تفكير لرسم شعرة إضافية في خارطة طريقنا نحو أعمال ليست فقط أقل إساءة للنساء، إنما أكثر إنصافاً وحساسية تجاه صورتهن وقضاياهن، ومعاشهن اليومي. وبنساء نقصد كلّ النساء، دون تمييز أو إقصاء. 

الوصول إلى دراما نسوية هو مسيرة إصلاح طويلة تتطلب شراكة بالدرجة الأولى، ونية حقيقية بالتغيير. شراكة فاعلة بين النسويات والمؤسسات النسوية، وصانعي/ات السياسات وفاعلين/ات الإنتاج الدرامي، والصبر، كثيراً وطويلاً من الصبر والفعل النسوي.

مقالات متعلقة

هل يجب أن تكون العدالة عمياء؟

26 نيسان 2023
الموجة الثالثة والأوسع انتشاراً من حركة #أنا_أيضاً #MeToo العالمية والتي انطلقت في 2017 كان لها تأثير محلي كبير ساهم في صعود حراك نسوي جديد يركز خطابه بشكل كبير على قضايا...
سالينا: بدون عنوان

22 تموز 2022
في هذا الفيديو، تقدم سالينا أباظة مادة بصريّة حميميّة وشخصيّة، تسمح لنا بالدخول إلى عالمها الخاص الذي يبقى دون عنوان، وتأخذنا بذاكرتها إلى العديد من الأماكن والأحداث والذكريات والشخصيات والتجارب...
دور المؤسسات النسائيّة في تفعيل سياسات حسّاسة للجندر

13 أيار 2022
"انعكس الحراك النسائي والنسوي في سوريا خلال السنوات السابقة على عمل المنظمات في الشمال السوري، حيث عملت بعض المنظمات على تطوير سياسات خاصة بها حسّاسة للنوع الاجتماعي، كما كان للمنظمات...
طريق شاقة للوصول إلى بيئة عمل آمنة وملائمة للنساء في شمال شرقي سوريا

11 أيار 2022
"على الرغم من وجود بعض المحاولات لتحسين بيئة العمل حتى تكون آمنة وملائمة للنساء العاملات في الإعلام والمجتمع المدني، إلّا أنّها لا ترقى للمطلوب فيما يتعلّق بتطوير القوانين والآليات الخاصة...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد