رواية مهداة للإنسانية
ممّا روته لي والدتي فيما يتعلّق بدفاعِ أصدقاء والدي عنه بعد طلاقهما، وتنصّله من مسؤولياته تجاه بناته، أنّ أحدهم ذكر أمامها أنّ واحداً من الأدباء العظماء تخلّى عن ثمانية أولاد في سبيل كتابة روايته الخالدة. حقيقةً، لم أتأكّد من هذه المعلومة مع معرفتي باسم الروائي المذكور، ولا أشعر بالرغبة بذلك، مع علمي ببساطة إمكانية البحث على الإنترنت عنها. لا يهمني حقاً، أنّ أحد المثقفين العظام، اختارَ التنصّل من مسؤولياته ليهدي البشرية روايةً إبداعية. معاناةُ والدتي لتربيةِ طفلتين في غيابِ الأب لم تكن تقلّ عن تفاجئها بالمجتمع اليساري الثقافي السوري الذي كانت بعض شخصياته جاهزة لتشكيل لوبي للدفاع عن هروب أحدهم من المسؤولية.
أهدى والدي لسوريا في نهاية حياته رواية، حسب ما سمعت ولم أتأكّد من هذه المعلومة أيضاً، لأنّ هذا الإنجاز ليس مهماً في نهاية الأمر بالنسبة لإنسانةٍ غاب عنها هذا الأب. أعتقد أنّ هذا الروائي خسر بجميع الأحوال قارئةً محبّةً للأدب، ومهتمةً بقراءته ودراسته.
تبدو لي الآن، هذه الذكرى عن قصّة صديق والدي وتبريراته التي ضاعفتْ من عزلةِ والدتي كامرأةٍ مطلّقةٍ في الثمانينات، مجرّد صورة مشوّشة من حلمٍ بعيد. الصور الضبابية التي تحمل تفاصيلًا لممارساتٍ أبويةٍ من بعض المعارف والأقرباء في محيطي الذي كبرت به في طفولتي وشبابي، ليست سوى ومضاتٍ في ذاكرتي. أحاول الآن مع اكتسابي للغة "المعرفة" أنّ أضع كلماتٍ على تجاربي الماضية لأحوّلها إلى معارف، ولأفهمَ حكايتي التي رسمت رضّاتها صورتي الحاضرة.
والدي منفتح ومتفهّم
كبرتُ في محيطي دون أن أدرك توجّهاته السياسية بشكلٍ واضح، لكن التناقضات تجاه النساء ضمنه (المحيط) كانت تؤثّر فيّ. ويبدو أنّ تجاربي الأولى مع التهميش ارتبطت بنوعي الاجتماعي قبل إدراكي لطبقتي وتوجّه محيطي السياسي. فلم تكن سهرات المساء الثقافية في منزل جارنا أبو رزان (اسم مستعار هو وجميع الأسماء الواردة في النص)، الإنسان الوديع، المّحِبّ للأدب والفكر، تنتهي إلّا في ساعاتٍ متأخّرة، حيث يحضر بشكلٍ رئيسيٍ في المساءات أصدقاؤه من المثقفين اليساريين (أحياناً ترافقهن زوجاتهن والعائلة)، فيما تقوم أم رزان بتحضير المازة والعرق، والجميع يُدلي برأيه حول آخر المستجدات السياسيّة والأدبيّة والفكريّة. لا يمكن إنكار تقدير الجميع لكبّات أم رزان وتبولتها المُميّزة، لكن من الغريب عدم توقّف أحدهم للتساؤل عن الأكزيما في يديها بسبب الجلي المستمر والتنظيف الدائم، خاصة مع ما تتركه رائحةُ دخانِهم العابق في الصالون في أيّام الشتاء. وفي أيام الصيف، كانت السهرات في حديقة المنزل الجميلة.
معاناةُ والدتي لتربيةِ طفلتين في غيابِ الأب لم تكن تقلّ عن تفاجئها بالمجتمع اليساري الثقافي السوري الذي كانت بعض شخصياته جاهزة لتشكيل لوبي للدفاع عن هروب أحدهم من المسؤولية.
لم أكن أفهم كيف يستطيع زوجان يعملان كموظفين طوال النهار، ويدّعي أحدهما منحه لزوجته المساحة لتحقّق ذاتها (مع التحفّظ على ما ينطوي عليه هذا الادعاء من سحبٍ لوكالةِ النساء وتعزيزٍ لسلطة الرجال، حيث يتم تبرير سلطة الرجال على النساء عندما يتسمون بالأخلاق الحميدة، وهذا يعزّز وجود هذه السلطة دون مسألتها)، أن ينتهي يومهما بأن يستلقي هو أمام التلفاز، بينما تُحضّر هي العشاء وتُدرّس الأطفال وتُجهّز لاستقبال ضيوفه. أبو رزان إنسان لطيف يحبّ عائلته، وابنته رزان كبرت معه في جوٍ من الوداعة. ولم يكن اضطراره لتزويج رزان في عمرٍ صغيرٍ لقريبٍ يحمل جنسية أوروبية غير مفهوم، فهو يسعى لتأمين الأفضل لأسرته مع علمنا بالأبواب التي يفتحها هذا الأمر لها ولأخيها. ومع عودةِ رزان مطلقّة بعد تعنيفِ زوجها لها، انزوى أبو رزان وانتهت السهرات المسائية، حيث كانت الموسيقا تصلنا من حديقتهم الخضراء الجميلة.
موسيقى كلاسيكية
يمرُّ لحنٌ عابرٌ لموسيقى بيتهوفن، فيتملكني إحساس بالانزعاج، أحتاجُ لبعض الوقت لأستطيعَ تفسيره. أستذكرُ ارتباط هذه الموسيقى بقريبنا الذي كان يحتل مساحةً في حياتنا مع غيابِ والدنا. هذا القريب المُحِّب للموسيقى الكلاسيكية والشعر استطاع أن يجمع تناقضاتٍ رهيبة مكنته من تحصيلِ امتيازاتٍ من جميع أشكال المنظوماتِ السائدة حينها!
فمع نشوئه في عائلةٍ محافظةٍ تقليديّةٍ، اضطرَ للزواج بسنٍ صغيرة بقريبته التي تنتمي لذات الطريقة المُحافظة في التفكير. ومع اكتشافه أنّه ينتمي لعالمٍ آخر أدرك فيه أنّه شاعر ومثقف، بحث عن زوجةٍ ثانيةٍ ليتمكّن من تحقيقِ ذاته الفنيّة معها. استطاعَ قريبنا اليساري، الشاعر والمثقف، الزواج باثنتين ليتمكّنَ من كتابةِ قصائد رقيقة تمنحُ قلوبنا السكينة. استفاد من منظومةِ تعدّد الزوجات ليعيشَ كإنسانٍ مثقف وكشاعر. مع كلّ الامتيازات التي حصّلها هذا القريب، لم يكن يتوانى عن التعنيف وفرض سلطته الأبوية على نساءِ العائلة اللواتي كنّ يحضرن المازات والمقبّلات مع أجواء الموسيقى الكلاسيكية، ليستطيع بدوره تأمّل المنظومة والتمعّن بدوره الرائد ضمنها.
قمع ومنظومة استبدادية
في انتظارِ أبٍّ غيّبه السجن لسنواتٍ، كبرتْ راما وكان عمرها تسع سنوات عندما التقت بوالدها لأوّل مرة. وسط الدموع وبكاء النساء الحاضرات لاستقبال الأب، احتضنَ منير ابنته التي كانت خائفة من الصراخ حولها لأوّل مرّة. شَهدتُ هذه اللحظات التي تظلّ حاضرةً في ذاكرتي وتسبّب لي الخوف كما راما. كانت تحتفظ والدتي بلوحاتٍ فنيّة لأبو راما، وهو صديقها الذي يجرح تغيّبه قلبها، وكانت تتمنّى كوني أحبّ الرسم أن أصير مثله يوماً. أبو راما هو أحد أصدقاء والدي الذين غيّبهم السجن لسنواتٍ أثناء اعتقال عدد من اليساريين في التنظيمات المختلفة في فترة الثمانينياتِ والتسعينيات (طبعاً وحتى اليوم) من قبل النظام. دفعت عائلة أبو راما أثماناً باهظة نتيجة القمع السياسي، وخسرت راما سنوات من حنان الأب، كما غيرها من أبناء وبنات سوريا. كما نعلم، عاش يساريو/ات سوريا في جوٍّ أمنيٍ قمعيٍ يلغي حريّة التفكير. وعان العديد/ات من التغييب في السجون، ومن الحرمان من العمل، ومن تدنّي الأجور، خاصة العمل في المجال الفكري، ومن الرقابة والإقصاء ومنع حريّة التعبير والتفكير والحريّة السياسية، والقائمة تطول.
باعتبار أنّ اليسار يسعى لعدالة ٍعلى المستوى الاجتماعي، كان من الغريب ألا يترافق هذا مع سعيٍ للتغيير على المستوى المرتبط بقضايا النساء.
خسرنا العديد من المثقفات/ين وشكّل غيابهن/م فراغاً سياسياً يدفع ثمنه جيلنا وأجيال من بعدنا. أحاول أن أركز على هذا السياق عندما أفكر في أبي الذي لم يكن ضحية مباشرة للنظام، لكنّه كان جزءاً من واقعٍ مرير. لن يمحي هذا التسامح، الذي أعمل باجتهادٍ للتفكير فيه، سنوات من الضررِ النفسي والاجتماعي الحاصل لي ولوالدتي ولأختي، لكن هي طريقة للوصول إلى حالةٍ من التفهّم لهُويّتي.
مزيج من التناقضات.. يا رفيقة من "سيجلي الجليات"؟
ضمن منظومةٍ أبويّةٍ سادت في سوريا، عانت النساء من التهميش ضمن الفئات المختلفة. فأن تكوني يسارية ورفيقة في النضال يعني أن تحظي بحقوقٍ اجتماعية تضعك على قدم المساواة مع رفيقك. نظرياً، مع كون اليسار يسعى لعدالة ٍعلى المستوى الاجتماعي، كان من الغريب ألا يترافق هذا مع سعيٍ للتغيير على المستوى المرتبط بقضايا النساء. باتتْ بعض النساء يشعرن في لحظات أنهن يحملن أعباءً كما الرجال خارج المنزل، ولكن داخل المنزل، كنّ خاضعات لتراتبيةٍ تفرضُ عليهن أعباءً رعائية ومنزلية لم يكن الزوج شريكاً بها. كذلك، تداخلت كثير من آليات القمع والتهميش الأبوي في العلاقات بين النساء والرجال، وخاصة الزوجيّة، حتى بات هناك ردّة فعل من قبل النساء، بتن فيها يفضّلن البقاء في المنزل على مضاعفةِ العبء عليهن. لا يعني التأمّل في هذه التناقضات التي طبعت ممارسات بعض من اليساريين ممن تبنى ثقافةً أبويّةً في الماضي إدانة هؤلاء، بل هو سعي لفتح المجال للتعلّم والتفكير بقصصٍ طبعت وجودنا، وما زالت تؤثّر علينا حتى اللحظة.
الآن وبعد الثورة السوريّة، يتضح أنّ لا إمكانية لعدالةٍ يتم فيها تهميش إحدى فئات المجتمع والحفاظ على امتيازاتِ فئاتٍ أخرى.
آباء خسرناهم
رحل عمو نادر، الإنسان اللطيف والمتفاني، والذي قام بتربيةِ ثلاث أبناء متحمّلاً مسؤولياته بعد طلاقه بالتقاسم مع زوجته. هذا الأب اللطيف والإنسان المرح، والذي خسرناه في أثناء الثورة بسبب قذيفة، أتذكره بكلِّ حبّ البنات المخذولات وأدعو له بالرحمة. كما يملأ والدي بالتبنّي، وهو زوج أمّي ووالد شقيقاتي، ذاكرتي بالحب. الأب اللطيف الحاضر بكلّ ما يحمله زمنناً من عنفٍ وإرهاق وخذلان لأبناء وبنات الشرق الأوسط الذي يتم استنزافه دون توقّف.