ازدواجيــــــة مناهج التعليم السوريــــــــــة

كيف ينتج الوعي الأسطوري؟


إلى أي حد تساهم المناهج الدراسية التي تدرس في المدارس والجامعات السورية في تعميم الوعي الأسطوري والكاذب عن الذات والأخر؟ وإلى أي حد تلعب دورا بارزا في تعميم الجهاد وثقافته؟ يجادل الباحث، صبر درويش، في بحثه هذا إن "الجهاد في سبيل الله"... لم يتم تعليمه في المساجد والمؤسسات الدينية، بل بالضبط داخل المدرسة، في سياق الحديث عن الشهادة والشهداء، وهناك، أي في المدرسة، تم الرفع من شأن الموت، في سبيل حياة أخرى، هي حياة الجنة، وهناك بالتحديد تبلور الوعي الغيبي، والذي نقل الصراعات الاجتماعية من أرض الواقع إلى سماوات الأوهام"

14 كانون الأول 2019

(لا تساهم كتب المدرسة السورية في وضع حدّ لهذا التفكك الاجتماعي على صعيد بناء الوعي، بل قلّ أنها تساهم في اتساع الشرخ بين الأجيال)
صبر درويش

كاتب وصحفي سوري. يكتب في عدد من الصحف العربية. من آخر أعماله تحرير كتاب "سوريا: تجربة المدن المحررة".

"الدين بديل خيالي عن العلم" (صادق جلال العظم)

مقدمـــــــــــــــــة

في العام الدراسي 2012 / 2013 تم تغيير مناهج التعليم السورية التابعة للنظام السوري بالكامل. يبدو هذا القول: "تغيير مناهج التعليم" قولاً مضلِّلاً، فما تغيّر بالضبط هو "الشكل"، بينما المضمون بقي على حاله يخدم الأهداف التي وضعها نظام الأسد ضمن العملية التعليمية في سوريا.

وإذا كان هدف التربية والتعليم بالمعنى الواسع للكلمة، هو الوصول إلى إنشاء الأجيال على المعرفة، ووضع معايير قيمية وثقافية جماعية، تجمع أفراد المجتمع وتشدّهم إلى بعضهم البعض وتمّيزهم بصفتهم جماعة، وتزودّهم بالخبرات والمهارات اللازمة للحياة.. إلخ، فإن هدف التربية والتعليم في سوريا عبر حقبة البعث التي ما تزال مستمرة منذ نحو خمسة عقود، كان وما يزال، تأبيد سيطرة نظام الأسد في السلطة، وذلك عبر مجموعة من الآليات والوسائل، كمناهج التعليم ومجموعة الرموز المفروضة داخل المدرسة والمترافقة مع ضخ إيديولوجي يسوّق لحزب البعث وقادته.. إلخ، التي عملت مجتمعة، على ضمان تأّبد هذه السلطة واستمرار ديمومتها.

دور المدرسة

لعبت المدرسة السورية دوراً حاسماً على صعيدين مترابطين، صعيد أيديولوجي، سعى نظام الأسد من خلاله إلى غرس أفكار حزب البعث الحاكم في عقول الفتية السوريين، وصعيد اجتماعي- ثقافي، ساهم بتشكيل وعي جمعي سنطلق عليه هنا مجازاً "بالوعي الأسطوري"[1]، وهو الوعي الذي يقف على الطرف النقيض من الوعي العلمي، هو نقيض المنطق، ونقيض الموضوعية، وهو الوعي الذي يزين الأمور بميزان الغيبي والعام، لا بميزان العقل والخاص.

(من كتاب "التربية الرطنية للصف الثامن ص ٣٣)

وكنا في مقال آخر[2] ناقشنا الدور الأيديولوجي الذي لعبته مناهج التعليم السورية في قولبة وعي التلاميذ السوريين، والسيطرة على عقولهم، بينما هنا سنحاول مناقشة ازدواجية التعليم من زاوية المعايير الوضعية المعتمدة في بعض الكتب، ككتب اللغة العربية، والتي تتضمن شرحاً وعرضاً للمعايير السلوكية والأخلاقية الاجتماعية، من جهة، والمعايير الميتافيزيقية المبنية على القصص الأسطورية والغيبية، التي نقع عليها في كتب التربية الدينية الإسلامية، والتي تساهم في بناء "الوعي الأسطوري" لدى أجيال السوريين، وهي الكتب التي تبقى برفقة التلميذ منذ الصف الأول الابتدائي وحتى نهاية العملية التعليمية. بينما يتجلى الهدف النهائي من هذه العملية برمتها، في إنتاج أجيال من السوريين والسوريات الصاغرين والتابعين، المفتقدين إلى أساسيات الوعي والفكر النقدي الضروري لكل معرفة.

معايير حداثية

عبر مادة "اللغة العربية" التي تدرس في المنهاج الحكومي الرسمي، والتي ترافق التلامذة السوريين منذ الصف الأول، يتم تمرير شحنة تربوية وثقافية تعلّم التلاميذ قواعد السلوك والآداب الاجتماعية، حيث يهدف الكتاب، إضافة إلى تعلم قواعد اللغة العربية، إلى اختيار مواضيع الكتاب لتكون "متناسبة مع مجالاتِ الحاجاتِ الملحّةِ مثلِ: (الأسرة، المدرسة، الحيّ والصحّة والحياة، البيئة، العلم والعمل)"[3]. وتعرض ملامح ثقافية اجتماعية كعرض للأمثال والقصص الشعبية، التي تمنح المتعلم بعداً تربوياً يستوعب من خلاله ثقافة الجماعة، وتركز على مواضيع معرفية مختلفة، مثل (حقوق الطفل، الهوايات، الطّبيعة، الأسفار والمغامرات، المدن، الآثار والتّراث، الوطن، منجزات حضاريّة، غرائب وعجائب، العمل المنتج، العلم والاختراع "التّكنولوجيا")، وذلك وفق ما جاء في مقدمة كتاب "العربية لغتي" للصف الثالث الأساسي.

(من كتاب القراءة، الصف الثالث، صفحة 36)

وإذا كانت مادة اللغة العربية في التعليم الجامعي غالباً ما تعتمد على القرآن والأحاديث النبوية في سياق شرح قواعد اللغة ودلالاتها، فإن مادة اللغة العربية، وفي مراحل التعليم الأساسية تعتمد بشكل أساسي على الأدب: كالشعر بشقيه المخصص للأطفال، والشعر العربي، قديمه وحديثه، بالإضافة لنصوص أدبية متنوعة مختارة من الأدب العربي والعالمي، وطبعاً لا يخلو الأمر من اعتماد بعض الآيات القرآنية لشرح بعض القواعد اللغوية كما في كتاب القراءة للصف التاسع فصل أول صفحة 32 على سبيل المثال، بينما تزداد الأمثلة التعليمية المأخوذة من القرآن كلما تقدم التلميذ في صفوف الدراسة.

(من كتاب الاجتماعيات، الصف الرابع، صفحة 119)

تستقي القواعد السلوكية والأخلاقية في مادة اللغة العربية مرجعيتها من قواعد وضعية متفق عليها اجتماعياً، كاحترام الكبار وتقدير أفراد الأسرة، الرحمة بالحيوانات واحترام الطبيعة.. إلخ، بالإضافة إلى محاولة غرس معايير أخلاقية حداثية كاحترام الرأي والرأي الآخر، آداب الحوار، أسس النقاش.. إلخ. كما يجري التركيز على "حقوق الطفل" و"حقوق الإنسان" بالاستناد إلى الشرعية الدولية للحقوق. وكما تشير الصورة التي أخذناها من كتاب القراءة للصف الثالث أساسي صفحة 36، والتي تعرض مجموعة من السلوكيات السلبية، والتي يطلب من التلاميذ مناقشتها ونقدها، وكل هذا على أرضية وضعية إذا جاز التعبير، أي بالاستناد إلى معايير اجتماعية لا معايير دينية.

(من كتاب القراءة الصف الثالث صفحة 10)

بينما على صعيد بناء الوعي السياسي إذا جاز التعبير، فإنه في مادة التربية الاجتماعية، والتي تبدأ من الصف الثالث، وتستمر حتى الصف السادس، وبعدها يتم استبدالها بمادة التربية الوطنية، التي تستمر حتى نهاية مراحل التعليم، بما فيه التعليم الجامعي. في هذه المادة يتم تعريف التلامذة على وطنهم سوريا، الموقع الجغرافي، النشاط الاقتصادي، البناء السياسي للدولة.. إلخ، ويتم تعريف التلاميذ على أهم الحقوق والواجبات، والتي يتم التوسع بها تدريجياً مع كل سنة دراسية. وكما تشير مجموعة الدروس المعنونة بـــ: الحقوق، الواجبات.. إلخ، والتي توضحها مجموعة الصور المعروضة في كتاب القراءة للصف الثالث وكتاب الاجتماعيات، للصف الرابع، صفحة 119، والتي تركز بشكل أساسي على الحقوق والواجبات المنصوص عليها بالدستور وبشرعية الأمم المتحدة لحقوق الانسان.

ينتقل التلميذ من الواقع الفعلي للحياة إلى عوالم غيبية، تستمد شرعيتها وإطارها المعرفي من نصوص مقدسة، لا يمكن نقاشها فكيف نقضها؟

تتمفصل كلا المادتين، اللغة العربية والتربية الاجتماعية، لتساهما في بناء المرجعيات السلوكية والأخلاقية والثقافية للتلاميذ في سياق عملية التربية والتعليم، وبقدر ما تحمل مادة اللغة العربية شحنة ثقافية ذات ملمس أدبي، فإن مادة الاجتماعيات تسرب شحنة إيديولوجية تهدف إلى بناء أجيال مؤمنة بنظامها السياسي وقادتها التاريخيين، كما تظهر الصور في الدرس المعنون: "نظام الحكم في سوريا" في مادة الاجتماعيات للصف الرابع صفحة 112 حيث يظهر الرئيس بشار الأسد وعقيلته وهما يمارسان حقهما الديموقراطي بالتصويت والانتخاب، وذلك في سياق دفع التلاميذ لإعلان ولاءهم لهذا النظام والانخراط في تنظيماته التي تبدأ مع طلائع البعث المفروضة على جميع التلاميذ مروراً بشبيبة البعث.. إلخ. بينما تعرض عشرات الصور الأخرى الرئيس السوري بشار الأسد، وغالباً برفقة زوجته، وهو يرعى الأطفال المساكين كما في الدرس الثالث من كتاب التربية الوطنية للصف السابع، حيث يظهر الأسد ومعه زوجته وهم يقدمون الرعاية للأطفال الأيتام، أو وهو يزور مدرسة من مدارس أبناء الشهداء.. إلخ.

(من كتاب التربية الوطنية الصف الثامن صفحة ٤٤)

وعلى صعيد متوازٍ تنتشر العشرات من "المقولات التاريخية" التي قالها الأسد الابن أو الاب، مع إرفاق وصف "الخالد" دائما في مقدمة الكلام.

معايير دينية

ينتقل التلاميذ من حصة اللغة العربية إلى حصة التربية الدينية، ليواجهوا هناك أسئلة في غاية التعقيد: "كيف يفوز الإنسان برضى الله؟" "وماهي الأمور التي يحبها الله تعالى؟".(كتاب التربية الدينية الاسلامية، الصف الثاني أساسي، ص 17.)

وفي الوقت الذي يحيل فيه كتاب القراءة التلاميذ إلى مرجعيات وضعية تتعلق بمعايير المجتمع السوري ومعايير المجتمع الدولي، ويسعى إلى بلورة الإطار الأخلاقي العام للتلاميذ بالاستناد إلى حقوق وواجبات تستمد مبرراتها من الحياة الواقعية، فإن كتاب التربية الدينية يجرّ التلاميذ إلى موقع آخر، موقع غيبي، يصبح الفعل الأخلاقي فيه مرتبطاً بمعيار اتفاقه أو مخالفته لما يرضاه الله، ويقرّه الشّرع الاسلامي.

(من كتاب التربية الاسلامية للصف الثالث صفحة 26)

هنا يصبح التلميذ ملزماً على فعل الخير، احترام الآخرين، النظافة، وما إلى هنالك من قواعد الحياة، وذلك لأن الله يحب ذلك. ففي الوحدة الثانية من كتاب التربية الاسلامية للصف الثالث الابتدائي، المعنونة: "أخلاق إسلامية"، يتم عرض مجموعة المعايير والقواعد الأخلاقية التي سنّها الدين الإسلامي، ويتم استعراض عشرات الأمثلة من حياة النبي محمد التي تبلور في مجملها الأخلاق الكريمة والمرغوبة، والتي على الأولاد التحلي بها قدوة "بنبيهم".

النساء في المناهج التعليمية ما بين النمطية وخطوة نحو التغيير

05 آب 2019
ما هي صورة النساء في المناهج التعليمية السورية؟ هل انعكست "الثورة" في تلك المناهج، لجهة إنصاف المرأة ودورها أم جاءت مجرد تكريس للقديم والسائد بأنماط أخرى؟ وهل تختلف صورة المرأة...

ويرتبط هنا الفعل الأخلاقي بشكل مباشر بمفهوم الثواب، ويصبح هدف الفعل الأخلاقي، أي هدف المسلم "ثواب الله تعالى والتوجه إليه بالدعاء"، كما يختم الدرس الأول من الوحدة الثانية من كتاب التربية الإسلامية للصف الثالث الابتدائي، صفحة 28.

بضربة واحدة، ينتقل التلميذ من الواقع الفعلي للحياة إلى عوالم غيبية، تستمد شرعيتها وإطارها المعرفي من نصوص مقدسة، لا يمكن نقاشها فكيف نقضها؟

هنا، في هذه المساحة، تبدأ عقول الفتية الصغار بالنمو والتفتح، وهنا تبدأ الثقافة الإسلامية بنسختها السنية بالتغلغل داخل الثقافة العامة للجماعة، فيتمفصل الغيبي مع الوضعي في بلورة المعايير العامة الأخلاقية والسلوكية للمجتمع السوري، وتضيع الحدود فيما بينهما، ليصبح من العسير بعدها معرفة مصدر مرجعية أحكامنا العامة، ووضع حدٍّ فاصلٍ بين الخطأ والحرام، وبين الواقعي والغيبي. ففي الدرس الثاني من الوحدة الثانية من كتاب التربية الاجتماعية للصف الثالث، والذي يشرح بعضاً من صفات الله، يركز الدرس على أهمية التوجه بالدعاء إلى الله فهو "المجيب السميع". وفي أنشطة الدرس يطرح على التلاميذ معرفة كيفية التوجه إلى الله عندما يسمعون بمعاناة الأطفال في الجولان وفلسطين والعراق. هنا يتم الاستعاضة عن الفعل، أي الدعوة للعمل على تغيير ظاهرة غير مرغوبة ليحل عوضاً عنها القول، أي الدعاء. فإذا السماء لم تمطر، فما علينا سوى التوجه إلى الله في الدعاء، "فالله يستجيب إلى دعاء السائلين إذا سألوه" على ما يعرض الدرس السابق.

(من كتاب التربية الاسلامية للصف الثالث صفحة 67)

تنمو أجيال السوريين وهي تحمل في أعماقها ازدواجية المعايير هذه، وتضيع بين ثنائيات حلال/ حرام، خطأ/ صواب، وتضيق الحدود بين المرجعيات، ويرتفع ما هو "عادي" إلى مصاف المقدس، وتتحول النواهي الاجتماعية إلى "حرام"، والسلوكيات المتفق عليها إلى "حلال". ففي الدرس الرابع من كتاب التربية الإسلامية للصف الثالث صفحة 36 بعنوان: "الغش خلق ذميم". ينتقل الدرس من اعتبار الغش سلوك خاطئ وذميم للقول بتحريم الغش، حيث "من الأخلاق التي حرمها الإسلام الغش"، بينما يتم هنا تدعيم هذا التحريم بالاستناد إلى حديث للنبي محمد يقول فيه: "من غشنا فليس منّا".

تنمو أجيال السوريين وهي تحمل في أعماقها ازدواجية المعايير، وتضيع بين ثنائيات حلال/ حرام، خطأ/ صواب، وتضيق الحدود بين المرجعيات، ويرتفع ما هو "عادي" إلى مصاف المقدس، وتتحول النواهي الاجتماعية إلى "حرام"، والسلوكيات المتفق عليها إلى "حلال"

في درس للتربية الإسلامية الصف الثالث أساسي، ص 45، يبتدأ الدرس حول الشهداء على غير العادة بمقولة من مقولات حافظ الأسد: "الشهداء أكرم من في الدنيا.. إلخ"، تليها مباشرة آية من القرآن: "ولا تحسبن الذين قتلوا.. إلخ"؛ وفي هذه الأثناء، يلتبس الأمر على العقول الفتية في عمر السنوات، ويصبح من العسير عليهم تمييز الحد الفاصل بين ما قاله "القائد الخالد"، وما قاله رب العالمين في كتاب القرآن، أيهما هو المقدس؟.

(من كتاب الديانة صف سابع صفحة 28)

يقول علاء طحان، وهو تلميذ في الصف التاسع في إحدى مدارس دمشق في سياق حديثنا معه حول تجربته التعليمية: "حتى وقت قريب وأنا أشعر بالالتباس حيال عدم قدرتي على التمييز بين ما قاله القائد الخالد وما قاله الرب في القرآن، وحتى وقت قريب كنت أعتقد أن كلمة الرئيس: "الشهداء أكرم من في الدنيا.. إلخ" هي آية قرآنية".

(من كتاب التربية الوطنية الصف الثالث صفحة 20)

لا يقتصر تناقض المعايير الاجتماعية على المستوى الاجتماعي الثقافي، بل يتجاوزه إلى حقل التفكير العلمي. تنتشر في كتب التربية الدينية قصص مختلفة، كقصة نوح "الذي بقي يدعو قومه إلى عبادة الله تسعمئة وخمسين عاماً"، والتي قد تكون أقرب إلى الأدب منها إلى الحقيقة، إلا أنها تعرض كوقائع حدثت في زمن مضى. تفترض هذه القصص الإيمان بالغيبي كي يتم تصديقها وقبولها، هذا أنها قصص عموماً تناقض العقل والمنطق والعلم، إذ كيف يمكن أن يعيش 950 عاماً!!- ولا سبيل إلى قبولها عقلياً سوى عبر الإيمان.

يقرأ التلامذة قصص كالإسراء والمعراج، أو أهل الكهف.. إلخ، فيقعون في تناقض معرفي بين ما يتلقونه في كتب العلوم المختلفة، التي تقدم لهم أسس التفكير العلمي، والتي يفترض أن يتملكوها تدريجياً، وبين ما يتم تقديمه كحقائق عبر دفتي كتب التربية الدينية، وهي حقائق مقدسة، لا يمتلك التلامذة حرية نقضها أو مساءلتها، فهي نصوص فوق النقد، يجب تصديقها حتى وإن تناقضت مع ما تعلموه من أسس الفكر العلمي، فالإسراء "حقيقةٌ واقعةٌ وقد تمَّ بالرّوحِ والجسدِ معاً" كما يشار إلى ذلك في كتاب التربية الإسلامية، الصف السابع، ص 58. بينما الوحي وهو ما يشير إلى الحديث الذي جرى بين الملاك جبريل والنبي محمد، والذي يعلن من خلالها بداية الدعوة الاسلامية واختيار النبي محمد من قبل الرب ليكون نبي الإسلام، وهي قصة تصلح لأن تندرج في سياق الأدب أيضاً، إلا أنه يتم تقديمها هنا باعتبارها حادثة حقيقية حدثت في وقت مضى، وما على الأولاد سوى تصديقها والإيمان بها، وبباقي القصص الأخرى كليلة القدر التي هبط فيها الملائكة وعلى رأسهم جبريل إلى الأرض لتصبح هذه الليلة من الليالي المقدسة وفقاً للسردية الإسلامية.

(من كتاب الديانة الاسلامية، الصف السابع، صفحة 59)

وكي يكتمل بناء "الوعي الأسطوري" يتم اقتراح مقدمات تتضمن نتائج محددة مسبقاً، فعلى سبيل المثال، ستقود المقدمة التي تشير إلى تنظيم الكون ودقة صنعته، إلى نتيجة حتمية مفادها "الصنعة دليل على الصانع"، وأن هذا الكون من غير المعقول أن يكون بهذا التنظيم من دون منظم، إن "الله" وفق هذه الرؤية يشكل ضرورة حتمية لسير الكون، وهي أفكار تنتشر بأشكال مختلفة داخل كتب التربية الدينية، حول التكوين والتاريخ والبشر والطبيعة.. إلخ. ولكن! ماذا لو كان الكون غير منظم؟ كما تقترح نظريات في العلوم المختلفة؟ ماذا لو كانت الفوضى هي الأساس وليس النظام؟ ألن تقود هذه المقدمة إلى نتائج مختلفة؟ ألن يقود هذا إلى مزيد من إعمال الفكر واعتماد العقل المسلح بالعلوم من أجل فهم "أسرار" الحياة؟.

ازدواجية المعايير الاجتماعية

تفترض مادة التربية الإسلامية أن جميع التلاميذ السوريين من غير المسيحيين همّ مسلمون سنة، ويتم تعليمهم أسس الدين الإسلامي بنسخته السنية، كما يتم اعتماد السردية السنية في رواية التاريخ؛ ونحن نعلم أن المجتمع السوري مكوّن من جماعات مختلفة الانتماءات الطائفية والعقائدية وحتى الثقافية، وأن لكل جماعة، تصوراتها وسرديتها التاريخية الخاصة. ووفق هذا المعطى، يواجه التلاميذ مجالين متناقضين يولدان ازدواجية لديهم على صعيد التكوين الثقافي والذهني. ففي المنزل، وفي إطار المجتمع المحلي للتلميذ، ثمة ثقافة الجماعة ومعتقداتها، والتي تستند في شرعيتها على مرجعياتها الدينية والثقافية الخاصة، أما في المدرسة فثمة سردية واحدة هي سردية الاسلام السني.

(من كتاب التربية الاسلامية للصف الثالث صفحة 41)

ففي الوقت الذي يطرح فيه كتاب التربية الإسلامية للصف السابع، صفحة 41، ضرورة الاقتداء بالنبي محمد و"ضرورة تنشئة التلميذ على تمثل القيم التي جاء بها" فإن الأولاد من الطوائف الأخرى كالعلويون والإسماعيليون على سبيل المثال فهم يتلقون معايير أخلاقية في وسطهم الاجتماعي تركز على علي بن أبي طالب (ابن عم الرسول والمرجع الأساسي للطوائف الشيعية) باعتباره المرجع الأول للسلوكيات والمعايير الأخلاقية، ويكاد يكون النبي محمد غائباً إلى حدّ كبير في هذه السردية المتعلقة بالطوائف المسلمة غير السنية.

في الساحل... أولاد "الشهداء" و"اﻹرهابيين" في مدرسة واحدة

09 تشرين الثاني 2019
"أنتو أخدتو محلاتنا" و"أنتو غريبين" و"بستاهلو اللي صار فيكن" و"أبوك إرهابي"... هي عبارات قالها تلميذ سوري من أهل الساحل لزميله النازح في المرحلة الابتدائية، الأمر الذي يخفي كما هائلا من...

وبالاستناد إلى مجموعة نقاشات أجراها الكاتب مع أولاد سوريين ينتمون إلى طوائف مسلمة غير سنية، لاحظنا كيف تتبلور هذه الازدواجيات الثقافية. علي عيسى تلميذ في الصف العاشر الثانوي تنتمي عائلته إلى الطائفة الاسماعيلية، وهي طائفة تعد من الأقليات في سورية، يقول: "نشأت في منزلي وفي الحيّ الذي أقطنه وأنا أعلم كل القصص المتعلقة بالإمام عليّ، وبالنسبة ليّ يعتبر الإمام عليّ هو المرجع الأساسي الذي نشأت على الاقتداء به، وخارج المدرسة لا أكاد أسمع اسم النبي محمد، بينما في المدرسة لا يكاد يذكر علي ولا القصص التي تشير إلى حياته، سوى ربما في كتاب القراءة للصف التاسع حيث يتم عرض نصّ كتبه الإمام عليّ كوصية لابنه".

هكذا ينمو التلاميذ السوريين في إطار هذه الازدواجية، فيتعلمون في المدرسة أصول الصلاة وفق الفقه السني على سبيل المثال، بينما صلاة الطوائف الأخرى مختلفة تماماً، ويتعلمون شعائر وطقوس دينية في المدرسة، بينما في بيوتهم وفي وسطهم الاجتماعي شعائر أخرى مختلفة، يدركون "الحلال والحرام" في مكان، ويتعلمون نقيضه في مكان آخر.

في المدرسة تعلم كتب التربية الاسلامية الأولاد قواعد الدين الإسلامي كالصلاة على سبيل المثال، بينما في سوريا لكل طائفة شعائرها وتعبيراتها الدينية المختلفة. يقول ضرار هاشم وهو تلميذ في المرحلة الثانوية وينحدر من أسرة علوية: "تعلمت الصلاة بالطريقة المسلمة السنية في المدرسة، بينما صلاتنا نحن فهي مختلفة تماماً". بينما في كتاب الديانة للصف السابع صفحة 71 فيتم شرح وتعليم الأولاد الصلاة ودائماً وفق الطريقة السنية.

(من كتاب القراءة الصف التاسع فصل أول صفحة 32)

وعوضاً عن أن تكون المدرسة هي المكان الذي يقدم معايير وتصورات مشتركة بين أفراد الجماعة، تصهر أفراد المجتمع وتنتج وعيهم وثقافتهم المشتركة، وذلك عبر اعتماد مواد علمية تساهم في بناء ذلك الوعي، عوضاً عن ذلك، يتم تقديم نوع من الخليط الذي يجمع بين العلمي والوضعي والديني والإيديولوجي في وعاء واحد، ينتج تشويشاً سيبقى مرافقاً للتلاميذ طوال حياتهم.

يتكون المجتمع السوري من انقسامات عمودية تحكم جملة العلاقات الاجتماعية، التي تتحدد في مجملها باعتبارها علاقات ناتجة عن انتماءات ما قبل حداثية، طائفية، عائلية، عشائرية.. إلخ، فالقول الفصل في المجتمع السوري لا لانتماء المواطنة (أي تعريف الفرد باعتباره مواطناً)، بل للجماعة، أي الطائفة، العائلة أو العشيرة.. إلخ. وفي كتب المنهاج السوري، وتحديداً في كتاب التربية الدينية، لا يوجد ذكر لهذه الجماعات، لا يوجد سوى الإسلام بنسخته السنية. فمن أين يستقي التلامذة السوريين معرفتهم عن بعضهم البعض وعن جماعاتهم؟

عوضاً عن أن تكون المدرسة هي المكان الذي يقدم معايير وتصورات مشتركة بين أفراد الجماعة، تصهر أفراد المجتمع وتنتج وعيهم وثقافتهم المشتركة، وذلك عبر اعتماد مواد علمية تساهم في بناء ذلك الوعي، عوضاً عن ذلك، يتم تقديم نوع من الخليط الذي يجمع بين العلمي والوضعي والديني والإيديولوجي في وعاء واحد

عندما تغيب المعرفة المنهجية يحل محلها الخرافة والأساطير، وعوضاً عن تقديم المعلومات حول الطوائف الإسلامية المختلفة الشائعة في المجتمع السوري بطرق منهجية وحيادية، يتم الاستعاضة عن ذلك بتداول مجموعة من الخرافات التي تشوش المعرفة وتضع حدّاً فاصلاً بينها وبين التفكير العملي.

لا تساهم كتب المدرسة السورية في وضع حدّ لهذا التفكك الاجتماعي على صعيد بناء الوعي، بل قلّ أنها تساهم في اتساع الشرخ بين الأجيال، عبر فرضها عليهم تاريخاً ومعتقداً ومعاييراً أخلاقية واجتماعية قد تكون متناقضة مع بيئتهم الاجتماعية الخاصة، فكيف والحال أنها متناقضة مع المعايير الوضعية للقيم الاجتماعية، والقراءة العلمية للتاريخ.

علم التاريخ

تفتقد كتب المنهاج السوري لمادة تدرس "علم التاريخ"، وهو العلم الذي لا يكتفي في سرد كيف حدثت الأمور، بل يتجاوزها للسؤال عن أسبابها وسيروراتها وكيفية نشأتها. ولا يختلف هنا كتاب "التاريخ" الذي يدرس في المنهاج السوري عن كتاب "التربية الدينية الاسلامية"، إذ على صعيد البنية والمنهجية فكلا المادتين تفتقدان لأسس المنهج العلمي في قراءة التاريخ.

المدرسون والطلاب في دمشق

23 تشرين الثاني 2019
"كثيراً ما يأتي طلابي ليشتروا من دكاني وهناك من يأتي من حارة أخرى متقصداً رؤيتي بشكل مغاير لشكلي في المدرسة. بعض المشاغبين منهم يتمشّون مساءاً أمامي ويدخلون كل حين ليشتروا...

يقدم كتاب التربية الدينية قراءة أقرب إلى أن تكون قراءة فقهية لتاريخ المنطقة، وهي قراءة من وجهة نظر سنّية، بينما جميع التلاميذ المنتمين إلى جماعات دينية وطائفية أخرى، عليهم أن يسمعوا هذا التاريخ لمرتين، واحدة في المدرسة وأخرى في وسطهم الاجتماعي، وهنا لا مجال للتوفيق، فإما هذه وإما تلك، وإن هذه الازدواجية التي يعيشها التلميذ السوري، لا تعدو كونها انعكاساً للازدواجية التي يحلمها الحزب الحاكم ذاته.

فحزب البعث الحاكم هو حزب علماني ولكنه مسلم، قومي عربي ولكنه قومي سوري أيضاً، يساري اشتراكي ويميني، ديموقراطي بحسب وثائقه، وفاشي، وهو يتحرك عبر كل سنوات حكمه عبر هذه الازدواجيات، بينما كل المؤسسات التي ينتجها، ومنها بطبيعة الحال مؤسسة التعليم التي تحمل في سيروراتها هذه الازدواجيات، والتي تورث بدورها لأجيال السوريين المجبرين على المرور من بوابات هذه المؤسسات في كل مرحلة من مراحل نموهم.

لا مجال للتوفيق على صعيد بناء الأجيال، فإما منهجية علمية في بناء المعرفة والثقافة السائدة، وإما شيء آخر، هو بالتأكيد نقيض الأول. وما يعطى في المدرسة السورية هو بطبيعة الحال لا يعدو كونه قراءة متحيزة للتاريخ، فعوضاً عن تأليف مادة تساهم في دراسة تاريخ المنطقة بمجمله بصفته تاريخاً منتجاً من قبل البشر، يكون فيه الاسلام ذاته جزء من هذا التاريخ الذي يسبقه ويتجاوزه في الآن ذاته، يتم عوضاً عن ذلك تقديم الإسلام بصفته هو تاريخ المنطقة، وأن التاريخ ذاته، لا يعدو كونه جزء من الإسلام. ففي كتاب الدراسات الاجتماعية للصف الرابع وتحت عنوان: "الإسلام نقطة تحول للعرب وللعالم"، صفحة 90، يعرض الدرس كيف نشأ الإسلام وتطور، وكيف بنى النبي محمد دولة الخلافة التي تعتبر بداية الحضارة العربية والإسلامية، ونحن لا نعلم بالضبط طبيعة هذا الكتاب "الدراسات الاجتماعية" إن كان كتاباً في التاريخ أو الدين أو أي شيء آخر.

(من كتاب التربية الوطنية الصف الخامس صفحة 95)

وعوضاً عن تقديم مادة للدراسات المقارنة، والتي تسقط القدسية عن النص، وتفسح المجال للعقل العلمي كي يعمل به تفكيكاً وتفسيراً ونقداً بالضرورة، يتم تقديم نص مغلق، هو امتداد للنص الذي نقع عليه عادة في المؤسسات الدينية. إن التاريخ، تاريخ المنطقة، يتحول وفق هذه المنهجيات، إلى تاريخ الإسلام، ولا يعود من المجدي البحث عن تواريخ أخرى، فكل تاريخ قبل هذا التاريخ ساقط، ولا يعدو كونه مقدمة لاكتمال التاريخ على يد الفتح الاسلامي وبناء دولة الخلافة.

بمثابة خاتمــــــــــة

إن "الجهاد في سبيل الله"، على سبيل المثال، لم يتم تعليمه في المساجد والمؤسسات الدينية، بل بالضبط داخل المدرسة، في سياق الحديث عن الشهادة والشهداء، وهناك، أي في المدرسة، تم الرفع من شأن الموت، في سبيل حياة أخرى، هي حياة الجنة، وهناك بالتحديد تبلور الوعي الغيبي، والذي نقل الصراعات الاجتماعية من أرض الواقع إلى سماوات الأوهام.  فالحديث عن الشهادة والشهداء يكاد يكون موجوداً في جميع الكتب المدرسية، فها هو درس بعنوان: "قيمة الشهادة والشهداء" من كتاب الديانة للصف السابع صفحة 27، حيث يتم الإعلاء من قيمة الشهادة بحيث أن حتى "النبي محمد تمنى أن يستشهد في سبيل الله أكثر من مرة" على ما يشرح الدرس. ولا يختلف الأمر حتى بالنسبة للتلاميذ الأصغر سناً، ففي كتاب الديانة للصف الثاني الابتدائي بعنوان "الشهداء أكرم من في الدنيا"، صفحة 45، سنجد درساً يمتد على عدة صفحات يشرح قيمة الشهادة والشهداء ومكانتهم عند الله.

(من كتاب التربية الدينية الاسلامية، الصف التاسع، صفحة 39)

في كتاب التربية الدينية للصف التاسع، وفي الدرس المعنون: "مكانة الشهداء عند الله"، صفحة 37 وما يليها، نرى عرضاً مفصلاً ومدعماً بالقصص التاريخية، والتي تجعل من الشهادة والجهاد في سبيل الله أمراً يرتفع إلى مستوى المقدس، فيخبر الله عبر آياته كيف أن الذين يقتلون في سبيل الله "هم أحياء عند ربهم يرزقون" على ما تسرد الآية القرآنية المتموضعة في مقدمة الدرس.

لعبت المدرسة السورية دوراً حاسماً على صعيد التضليل وتزييف الوعي الاجتماعي. قدمت المدرسة أخلاقاً مجردة، وربطتها بما يرضي الله ويقرب منه، وأهملت عن قصد دراسة بنية المجتمع والكشف عن تمايز طبقاته الاجتماعية، وربط الأخلاق والأفكار وحتى الغايات، بفاعلين تاريخيين من لحم وعظم، هم ولا أحد سواهم من ينتج الأخلاق والتاريخ والأفكار.

منذ أكثر من نصف قرن، أكد ياسين الحافظ، أحد أبرز المفكرين السوريين، على "أن نقد جميع جوانب المجتمع العربي الراهن وتقاليده نقداً علمياً- علمانياً صارماً.. واجب أساسي[4]"، إلا أن هذا النقد لم يأتي على الرغم من مضي كل هذه السنوات، ما حل عوضاً عنه، أنظمة سياسية، لعبت دوراً حاسماً في تكريس التخلف فيما هي تكرس سلطتها على المجتمع المغدور.

المراجع:

[1] - وهو شبيه بمصطلح صادق جلال العظم "الذهنية الدينية"، الذي أشار إليه في كتابه: نقد الفكر الديني، الصادر أواخر الستينيات من القرن المنصرم. والذي يعرفه بأنه "طغيان التقبل العفوي والانتظام اللاشعوري للإنسان ضمن إطار "الأيديولوجيا الغيبية" الضمنية والسائدة، ص 7.

[2]- حول مزيد من التفاصيل حول العملية التعليمية في سوريا، راجع للباحث: العملية التعليمية في سوريا بين الحاضر وبين المستقبل المأمول، تاريخ النشر: 19-05-2015، على الرابط: http://cutt.us/LFqD

[3] - من مقدمة كتاب "العربية لغتي" للصف الأول، من مرحلة التعليم الأساسي.

[4]- مأخوذ من اقتباس في كتاب صادق جلال العظم "نقد الفكر الديني".

(تعبر هذه المادة عن رأي الكاتب وحده)

مقالات متعلقة

المدارس الرسمية في سورية..

05 كانون الأول 2019
ليست الحرب وأثارها المباشرة هي التي تحاصر العملية التعليمية في سورية وتدفع ملاييين الأطفال السوريين نحو الجهل والأمية، بل هناك الواقع الأمني وطلب المدرسين للخدمة العسكرية والضعط الاقتصادي الذي يدفع...
مستقبل التعليم في الشمال السوري

26 تشرين الثاني 2019
"بتنا نفضّل البحث عن عمل من أجل مساعدة أهلنا بدل الذهاب إلى المدرسة التي لم يعد فيها التزام بسبب تسرب الطلاب والمدرسين، وعدم وجود أعداد كافية من الكتب واللوازم المدرسية"....

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد