كان نهاراً صيفياً حاراً، استلقيت فيه على الاريكة، وأنا أشعر بقطرات العرق تبلّل صدغي وتُغرق جسدي في بحيرة من أحلام اليقظة. الماء المالح يلامس جلدي ويذيبه بأشعة الشمس الحارة. ماذا أمتلك غير أحلام اليقظة في انقطاع الكهرباء المتواصل. أغمضت عيني وأنا أبحث عن لحظة نوم في ساعات الأرق المتواصلة التي لم تنقطع يوماً في بيروت. البارحة، في الثالث من آب كنت قد بلغت الخامسة والثلاثين من عمري.
هابطاً من سقف الأحلام المالحة إلى موجات الصوت الرهيب، يدفعني الضغط نحو الشرفة فتتكسر المرايا والأبواب. أصيخ السمع قليلا فأشعر بدنو الانفجار الثاني. وها هو الموت يكشف عن وجهه في سواد الدخان المتصاعد. يضيق صدري فيعود إلى ذهني جميع وجوه الضحايا الذين أبهت الموت مقلهم تحت قصف البراميل والصواريخ. أمسك قطي "ميرو" ... أهمس له: "تعال يا صديقي، لعلنا ننجو في هذه القيامة".
أهرع الى أكثر منطقة آمنه في المنزل. ضممت قطي وتكورت كجنين. يفتح الجحيم أبوابه وينفذ الصوت والهواء الساخن إلى شراييني ودماغي وأغيب في دوامة الانفجار المتصاعد كغيمة تخطف المدينة إلى الموت.
أسلمت المدينة رُوحها المرهقة، ولاذت بتنهدات البحر الهادئة. مدّدتُ عُنقي من الشرفة، فرأيت المدينة كتلةً من الفحم، انحنيت على وجهها المُعفّر بالسخام، كأنّني أتقمّصُ دورَ شاعرٍ ملحمي: بيروت، ماذا تَرك لنا الشُّعراءُ مِنك غَير القصائد نَتسكّعُ بها بحثاً عن زمنٍ ضاع في حروب الممالك؟
بيروت، أفيقي لعلّنا نَعود بقصصك لأطفالنا عندما نعمّر حجارة البيوت المدمرة.
بيروت، عبرنا إليك مثلما عبر أجدادنا بحثاً عن وجه الله في الشرق، وها نحن نغرق في ظلمتك، وقد ضُربت علينا الذّلة والمسكنة. بيروت، رَضينا بما تبقى منك، وقلنا لعلّنا نَستفيء بالخيام المحترقة، لكنّنا ملعونون بأن نكون شُهداء سقوطك الأخير.
طائرة تعبر خطوط الاشتباك والحظر
قبل عدة أشهر فُرض الحظر المنزلي، وكُنّا محاصرين في بيوتنا هلّعاً من عدونا الخفي الجديد. لكنَّ طائرة (درون) عبرت خطوط الاشتباك القديمة، لتصوّر المدينة حيّاً إثر حي، كان لطنينها أثراً يبعث على الجنون. ولم يكن هنالك بندقيّةُ واحدة تستطيع أن تُسقطها. جعرت الطائرة بوقاحة وحشٍ أسطوري خرج علينا من التاريخ ليثير فينا ذلّاً مغمّساً بتسوّل الذكريات. وفي نوبة انفعالي، غنيت بسخرية: "اشهد يا عالم علينا وعلى بيروت". الطائرة ستستمر بالدوران وهي توثق درب الخذلان الذي مشينا عليه حين ظلّلنا الطريق وقدمنا إلى بيروت. من شرفتي عددت عشرات الطائرات التي أغارت على حصون المقاومين.
بحثا عن بلاد الشام أو الحرية
في الحظر كانت ساعات انقطاع الكهرباء أقلّ وتيرةً. خرج علينا المتنبئون بنهاية الزمان فقرأت جهاراً: إن السّاعة آتيةُ لا ريبَ فيها. حملت خريطة بلاد الشام المعلّقة على حائط غرفتي ثُمّ نَزلتُ إلى الطرقات، بَحثاً عنها. حملت درعي ووقفت مسلحاً بكل أغنيات الساحات التي هتفنا بها للحرية. يقولون: هذه بلاد تذبح أنبيائها! تُرى بماذا فكّر ابن مريم وهو يسير غارقاً بدمائه؟ عيسى! هل أنت في الجوار؟ ماذا عرض عليك بيلاطس البنطي؟ بيلاطس هل تلذّذت بدمه وهو يَسيلُ في غرفةِ التعذيب. هَل قُلتَ لَهُ رَبّك قيصر؟ هَل قُلت له تَسقطَ ممّلكتُك في السّماء ولا يَسقطُ قَيصر؟ هل أخفيته في سراديب الموت وقلت لمريم قتلناه تحت التّعذيب؟
هذه بلاد تذبح أنبيائها! تُرى بماذا فكّر ابن مريم وهو يسير غارقاً بدمائه؟ عيسى! هل أنت في الجوار؟ ماذا عرض عليك بيلاطس البنطي؟ بيلاطس هل تلذّذت بدمه وهو يَسيلُ في غرفةِ التعذيب
في البِدء كان الظّلام، ومِنهُ تسلّل المتظاهرون ليبشّروا في المدن المحاصرة، ومِنهُ عبر القتلة ليرتكبوا المجزرة. دقوا أجساد المتظاهرين بالرصاص مثلما دقوا جَسدَ عيسى بالمسامير. صعد شيخُ الجامع درجات الِمنبَر، ولَّى وَجههُ صَوب المحاصرين في الظلمة: يا أولاد سوريا البررة، يا مُستقبل سوريا الناصع. اصمدوا فَهذهِ مَعركةُ الحريّة. كان ثمّة ضوء وحيد يُنيرُ ظلمة الحيّ، فبدا المتظاهرون كالملائكة، انتصب الضوء كفتاة حزينة تظلّل بفستانها دربَ الصعود نحو الموت. فارتعشَّ صوت الشيخ، وربّما تهلّلت وجنتيه من الدّموع. كان صَوتَهُ كالضوء في حناجر المعتصمين. أسكتوا صوت الشيخ وأظلمت المدينة. أظلمت وهي تَتّلو ما تَيسّرَ من ذِكرها الحَكيم. هل نحنُ خارج الزمان، والتاريخ؟ هل أظلمت مُدن الشرق حين عبر التتار منها؟ يجلس هولاكو على بعد ثلاثة أحياء من غرفتي، يلفُّ عَمامته في السراديب ثم يفكر بذبح أبناء المدن الثائرة. أغرقوا درعا ودمشق وحمص والقلمون وحلب وبيروت بالسواد، قتلوا كلَّ نفسٍ سبّحت باسم الحرية. أيّها التاريخ، عَجوز الزّمن الماكر، هل يُرسلك الله إلينا لتُغرِقنا بأحابيلك؟
غيّر المقاومون طريقهم
تَحوم (الدّرون) دُون توقف كأنّها عين الله التي تراقب أقدرانا. غيّر المقاومون طريقهم، ذبحوا قرابينهم في القرى الحدودية التي عبروا منها كما يعبر يآجوج ومأجوج بحيرة طبريا. سينزل المسيح من السماء، مازلت أنتظر إشارة منه، لعل الدرون تشوّش هبوطه. أبتي هل يتراءى لي جلالُ وجهك في الظلام؟ أبتي انتظرناك طويلاً ، حتّى بدا لنا أنّك مُجردُ ظلٍّ لقصة خرافية.
بكينا مَجدك الضائع حتّى تحجّرت مآقينا وصِرنا نَذرف الملح، ونخزّنه زاداً لوحشة هذا الخوف. تشابه علينا الملوك والأدعياء والمبشرين حتّى ما عُدنا نُميّز الخَبيثَ من الطيّب وتُهنا في ظلمات الشر وتجرّعناه حتى فسد الخير في قلوبنا.
أبتي .. أبتي .. لماذا تركتنا؟
بالخيانات وحدها... تسقط المدن المحاصرة
من شرفتي أستطيعُ أن أدير المعركة. نَنقسمُ مجموعاتٍ صغيرة، وفي الظلام نتحرك. نَعرف بعضنا من الخطوة، من إيقاعها المرهق وانثنائها المتلهف. نترك مداخل المدينة مفتوحة. سيرهبهم صمتها، سوف نستدرجهم بالحواري التي حفظناها عن ظهر قلب. من الدار القبلية ننحدر صوب الحي الشمالي، ومنه سنلّتف عائدين ونلبث في الظلام شادّين أعقاب البنادق إلى صدورنا.
سدّد ببصيرتك نحو الخوف لا بعينيك.
سنشتم خوفهم مثلما تشتم الذئاب رائحة الدم، وحين يفتحون النيران من كل صوب سنعرف أنهم يرتعدون. سننقض عليهم طلقة وراء طلقة. تشبّث بذخيرتك ولا تبعثرها، فهي من ذهب الزوجات وأساور الفتيات، ومن صبر الآباء على شظف الحياة.
لا تدع جسد صديقك ورائك فهو زهرة أقحوان قادمة.
لا تخف القذائف والمدافع، فهي عمياء وأنت تحفظ هذه الأرض كما تحفظ سورة الفاتحة. وإن سقطت ستسقط، في الطريق الذي سرت عليه وأنت تردّد قصائد الحب، وتغني المواويل.. سنحفر السراديب والأنفاق، ونستقبل الرصاص مرحبين بالموت. ونتقاسم خبز يومنا، ونغني كل الأغاني. عندما تدافع عن بيتك لا يستطيع أحد انتزاعه منك. هذه استراتيجية جميع المحاصرين. يزرعون أنفسهم كالصخر في التراب. لا تسقط المدن المحاصرة سوى بالخيانات. سقطت دمشق وحلب بالخيانة. وسلّم ابن مريم بالخيانة ،ها هي بيروت تسقط مرة أخرى بالخيانة.
يغني المغني: "لأجل عيونك يا حمص"
كان انقطاع الكهرباء مؤشراً على مجزرة ما. انقطعت الكهرباء في عربين. دخلت الفرقة الرابعة المدينة. أعدمت ميدانياً عشرات الشبان. دخلوا عرطوز ..
حزّوا الرقاب على ضوء الشموع التي ابتهل قربها الأطفال لينجيهم الله من الشرير،
وفي ضوء الشموع المتراقصة خلقت أشد لحظات الثورة رومنسية. تراءت أحلام يقظة عن الساحات التي ستعود ملكاً لشبابها. كانت ملاحم التضحية تروى على ضوئها الراعش.
شيّعنا البارحة على هدير الهتاف الشهيد..
الله يرحمه كان لا يخاف الأمن.
وقف أمام جحافل الجيش المدرعين برشاشاتهم وغنى: فتنت روحي يا شهيد.
لله يرحمه كان لوجهه صورة بدر كامل.
آمن بسوريا حرة. وقف أمام الدبابة: لا طائفية أنتم إخوتنا
أعدمه الأمن بطلقة مسدس في رأسه
وفي الموبايلات قليلة الشحن بدأنا نخزّن أغاني منشدي الثورة: وفي إرهاق الأحلام والفقد كان يشرد الشباب وهم يرددون وراء المغني سائرين نحو الموت: "لأجل عيونك يا حمص".. هل هنالك أرقّ من هذا الغناء؟ يرتعش صوت المغني كما ترتعش أرواحنا.
انقطعت الكهرباء في بيروت، وها هي تصحوا على مجزرة. أظلمت ساحة الشهداء بعد أن أطفئ ضوء المظاهرات. نزل المقاومون ليحرقوا خيم المعتصمين. نزلت من بيتي في الشرقية، كأنني أتسلّل من درعا المدينة حتى درعا البلد. كان يكفي عبور النهر أحياناً لتكون في المدينة. النهر الذي عبره الفلسطينيون في الظلام ليهرّبوا ربطات الخبز والشموع لشطر المدينة المحاصر، ثم عبره المقاتلون ليدافعوا عنها في اقتحامها الاول. في الظلام اختلط الدم الفلسطيني مع دم أبناء درعا دفاعاً عنها. أمام إحدى الخيم ربط أبناء طرابلس جمداناتهم على الرؤوس كما يفعل الحوارنة وأبناء ريف حلب وريف إدلب، ومنهم من لبس الكوفية كما يفعل الفلسطينيون. أشعل الشباب والفتيات أضواء الموبايلات وتحلّقوا بدوائر وغنّوا.
عندما تدافع عن بيتك لا يستطيع أحد انتزاعه منك. هذه استراتيجية جميع المحاصرين. يزرعون أنفسهم كالصخر في التراب. لا تسقط المدن المحاصرة سوى بالخيانات. سقطت دمشق وحلب بالخيانة. وسلّم ابن مريم بالخيانة ،ها هي بيروت تسقط مرة أخرى بالخيانة.
أجلس وسط الركام بماذا يتشبث الغارقون في الظلمة؟ قالت لي الدكتورة جمانة أثناء القصف على درعا: هل هنالك غناء في الأوقات الحالكة؟ "هنالك غناء في الأوقات الحالكة" تقول لي هذه العبارة لبريخت وتظل في أذني طيلة السنوات المعتمة التي أمضيتها متنقلا في الظلام مثل شبح. وها أنا أردّدها في الطرقات التي يسبح الناس فيها بدمائهم.
بحثا عن أصابع أمي
في الركام تنحني أصابعك مع الخيوط كما ينحني الهواء على الأغصان. بأيّ لغةٍ تَهمسين لها لتنثني بين يَديك فتعقدين الوقت عقداً صغيرة من الأيائل الراكضة في الغابات والشُهب المتناثرة في المجرّات؟
هل تُدربين الشّمس على الحضور؟ والزهر على التوّرد؟ والهررة على الخرير، والينابيع على التدفق؟ كلّما أطلت النسيج يعود التائهون من حروبهم؟ تدربين السفن على الإيّاب، والمحاربين على الهدوء. هل تلتفتين إليّ بكل هذا الخراب وأنت تُطرزين الكون، وتغزلي لي وشاحاً من حقول القمح، ومن رائحة الياسمين، ومن دفء البيوت، من عُشب الحواري وبرد الكوانين؟ هل تغزلين لي كل تلك الغيوم التي أفيئُ بهشاشتها، وأزمّها إلى قلبي معطفاً يدفئ القلب المكسّر كهذا الظلام؟
أحيكُ الدمار مثلْما كانت تحيك أمي الصوف في ليل القرية البعيد. تُشّعلُ فوانيس الدّار ومدافئها، وتلظم السنارة لتُحيك مع صبرها قصص جدتي بهجة وأساطير سرايا الذيبان. تُشرقُ ابتسامةً على خدها ويغمرُ عينيها حزنُ صافٍ مثل ماء الجدول المنحدر من هضاب حوران. أحيكُ الأفكار والمؤامرات. وأدرّبُ نفسي على الانتظار، تائهاً في لُجة هذا الظلام الممتد حتّى الثقوب السوداء. أحملُ التيه ككبّة من الصوف وأعيدُ حياكة القميص الذي مزقته الحراب حِين عُلّق ابن مريم على خَشبة. مريم أطفئوا فانوس عينيك حين أنزلوه وحملتّه في الظلام حتْى الكهف. مريم، أموجعٌ هو المسير في الظلام مع جُثةً هامدة؟ أتركك الله لكل هذه العتمة بعد أن نَفخ فيك من رَوحهِ؟
هل نسينا وهو يَغزلُ ثوب الكون الطويل، يُطرّزهُ بالمجرات والأفلاك والأقمار، يُزيّنُ عقده بالأحجيات؟