أتذكر جيداً مشهد وفاة حافظ الأسد الفجائي. كان عمري حينذاك، عشر سنوات، وانعكاس ذلك المشهد على مشهد أكثر غرابة حينها من قبل عائلتي، هو ما جعلني فضولية أرغب دوماً بمعرفة المزيد وطرح الكثير من الأسئلة: ماذا يحصل؟ ولماذا يحصل بتلك الطريقة غير المفهومة؟ ولماذا الخوف اعترى غالبية الناس ذلك اليوم؟ وكأنّ ذاك الموت كان أشبه بموت إله رغم أنّه تجسّد بشخص ما، حكم وعاش ومات.
"لقد مات الأسد... لقد مات الأسد"
في ذلك اليوم، كنّا جالسين كالعادة نشاهد التلفاز عندما ظهر على الشاشة خبر وفاة حافظ الأسد المفاجئ. خلفي، كانت أمي تبكي بشدّة والخوف يعتريها، وكأنّها فقدت قريباً لها، بينما كان أبي بجوارها غاضباً جداً والتوّتر يعتري وجهه الحاقن، وكأنّ تدفق الدم إلى رأسه قد توقف. وحده، أخي الذي كان برفقة صديقه المقرّب، يقفان عند باب الغرفة، كان يضحك ويقول: "لقد مات.. مات الأسد".
ينظر إليه أبي ويقول: "مبسوط أنو مات؟ مانك عرفان شي، بكرا شوف شو رح يصير بالبلد". لكن هذا الكلام لم يُوقف أخي عن الضحك المستمر، وهو الذي كان منذ بداية شبابه ضد سياسة ومنهجية النظام القمعي المتسلط، وكان مطلوباً قبل ذلك بكثير لمراجعة فرع الأمن السياسي، الذي لم يزره يوماً.
منذ بداية ثورات الربيع العربي، كنت (كما غالبية السوريين/ات)، ممن يحلمون بعدوى التأثير، وهو مصطلح استخدمه المفكر الفرنسي، غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجيا الجماهير"، إذ يقول بما معناه، أنّ التأثير بين الشعوب ينتقل بالعدوى من خلال التأثير والتأثّر بالآخر، ولأنّنا محكومون بالأمل تجرّأنا على الحلم بأمل انتقال عدوى ثورات البلدان العربية إلينا. الثورة السورية كانت أشبه بالخيال، نخاف الاستيقاظ من ذاك الحلم الجميل الذي لا يكاد يُصدّق أنه حصل في ظلّ ديكتاتورية نظام حكم وحشي متوارث كعائلة الأسد، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّه نظام جمهوري قانونياً، لكنه نظام ملكي وراثي بامتياز حقيقة.
خوفاً من النسيان
لم أتحدث يوماً عن نشاطي في ظلّ الثورة، ولطالما فضّلت الصمت والاحتفاظ بالأشياء لنفسي، ولطبيعتي التي تفضّل الصمت والإصغاء على الكلام. وما جعلني أكتب هذا النص هو خوفي على ذاكرتي من نسيان التفاصيل التي لا أريد لها أن تسقط سهواً مع الزمن.
في بداية الثورة اعتراني الخوف من المشاركة في الاحتجاجات، وهو شيء طبيعي جداً لشعب مقموع لعقود من قبل سلطة الأسد، وبالتالي لأيّ سوري\ة، فقد تشرّبنا الخوف كما الحليب منذ صغرنا، ومُنعنا من الاحتجاج، أو حتى من مجرّد التعبير عن استيائنا من الأوضاع الاقتصادية أو الحديث في السياسية لمجرّد تفريغ الضغط والتعبير عن استياءنا. وعندما كان يُقال لنا أنّ للجدران آذان صدقنا واحتفظنا بمخاوفنا في داخلنا، طيلة أيام وشهور وعقود إلى أن بدأت الثورة.
أوّل مظاهرة شاركت بها كانت بتاريخ ٢ أيار ٢٠١١ في ساحة عرنوس في شارع الحمراء في العاصمة دمشق، مظاهرة نسائية صامتة رُفّعت فيها لافتات، وكان من المفترض أن تليها مظاهرة شبابية. كان عدد المشاركات قليل، وبعد فترة زمنية غير طويلة هجم عناصر الأمن على المتظاهرات وقام بتفريقهنّ. مشيت بهدوء مربك فيما الخوف يقصف ركبي، ثمّ قطعت الشارع لأجد نفسي في الجهة المقابلة من الشارع والمظاهرة. وفي تلك اللحظة، توقف أمامي الباص الأخضر الكبير، كان بإمكاني الصعود لكني بقيت واقفة ولم أستطع المغادرة، لربّما كان لاشعوري من اتخذ قراراته تلك في أجزاء من الثانية. لربّما أردت أن أرى بعيوني لأعرف ما الذي سيحصل تالياً، أردت أن أوّثق في ذاكرتي وحشية الأمن والنظام المنهجية في طريقة تعامله مع الاحتجاجات السلمية.
المشاهد التي كنت أراها أمامي بدت لي كالخيال: الصراخ نتيجة شحط أو ضرب النساء بعنف وقسوة في الشارع، رجال الأمن وهم يحاولون إمساك أكبر عدد من النساء المتظاهرات، أحد عناصر الأمن يضع صبية في صندوق السيارة، وآخر يمسك بقوة بصبية من ذراعها ويريد أن يأخذها ليضعها في صندوق سيارة أخرى، بينما صديقتها تمسكها من ذراعها الأخرى بقوة، تصرخ وترفض التخلّي عنها وثلاثتهم يصرخون.
الجميع يركض وعناصر الأمن مستمرون ومصرّون على الإمساك بأكبر قدر ممكن من المتظاهرات، في حين أنّ هناك رجال ونساء في نفس المكان، يمرّون ويكملون طريقهم/نّ، وكأنّ الذي يجري لا يعنيهم/نّ، لم يعتريهم الفضول ليروا، ولا ليشاهدوا ما يجري، ولا الرغبة في معرفة نهاية المشهد. كان تجاهلهم/نّ غريباً ومريباً لكن متوّقعاً. لماذا؟ أما زالوا خائفين؟ ألا زالت أصواتهم مكتومة؟ أم أنهم اعتادوا السكوت ونسوا نغمات أصواتهم إلى درجة اعتادوا معها الخنوع والخضوع؟
ثاني حدث أتذكره جيداً، هو محاولة تنسيق مظاهرة بين أواخر ٢٠١١ وبداية ٢٠١٢ من قبل طلاب وطالبات كلية التربية/ قسم علم النفس وغيره من الأقسام، للقيام بمظاهرة في السكن الجامعي في المزة. رغم التنسيق والتخطيط بشكل جيد ومحكم، وبسرّية تامة من قبل الشباب والصبايا، إلا أنّه في صباح نفس يوم الاحتجاج علم عناصر الأمن في المدينة الجامعية بالسيناريو المخطّط له، وتمّ توزيع كم هائل من عناصر الأمن في كلّ أنحاء المدينة الجامعية ولم يتح لذلك المخطط أن يبصر النور.
الحدث الثالث كان فريداً ونجم عنه حشد كم هائل من البشر من مختلف الأعمار والخلفيات والطوائف لإطلاق مسيرة مؤيدة للأسد بشكل قسري.
ففي آذار ٢٠١٢ قام أمن السكن الجامعي بإغلاق جميع أبواب المدينة الجامعية وحجز جميع الطلاب والطالبات في وقت مبكر من صباح أحد الأيام، وذلك ردّا على المظاهرات التي قام بها طلاب وطالبات الجامعات في عدد من المحافظات السورية. هذا الحراك الطلابي الثوري السلمي، والذي بدأ حينذاك ينتقل بالعدوى والحماس من جامعة لأخرى، ومن مدينة إلى أخرى كدمشق وحمص وحماة وجامعة الثورة حلب، لتنسيق حالة من التضامن والتظاهر الطلابي السلمي ضد وحشية سلطة النظام، ما دفع الأخير لتكثيف نشاطه الأمني في الجامعات محوّلاً إياها إلى مؤسسات أمنية بهدف إيقاف الحراك السلمي للطلاب المناهضين لسياساته.
آنذاك، قام كل مسؤول ومسؤولة عن وحدة سكنية في المدينة الجامعية في دمشق بالمرور على جميع غرف الطلاب لإخبارهم بأنه سيتم حشد الجميع لمسيرة ضخمة "مؤيدة للقائد العظيم بشار الأسد"، وأنّ من يحاول عدم المشاركة أو الاعتراض أو الهروب، سيتم فصله من كليته التي يدرس فيها، وأيضاً فصله من السكن الجامعي. منذ صغري لم أحبّ يوماً القوانين التي تُفرض عليّ عنوة، ولا أخضع لما يُفرض عليّ عنوة تحت نطاق سلطة التهديد والعقوبات. آنذاك، وفي مواجهة مثل هذا القمع والإجبار، كان ثمّة صوت عميق داخلي يعلو ويكبر لأفكر كيف أستطيع الخروج من تلك الأبواب المحكمة الإغلاق والأشبه بزنزانة. كنت كلّ بضعة دقائق أنزل خمسة طوابق لأتأكد من باب الوحدة التي كنت حبيستها، ثمّ أعود إلى غرفتي، لأعيد تكرار نفس العملية مراراً وتكراراً، إلى أن فُتح باب وحدتي في الساعة السابعة وأربعين دقيقة. خرجت منها، وأنا أرتجف من الرعب، وكأنّي ارتكبت جريمة، وكلّي خوف من أن يتم الإمساك بي، أو كأنّي عارية بلا ملابس وأخاف أن يراني أحد ما، ويمسكني بالجرم المشهود.
فجأة يأتيني صوت مخيف قوي من خلفي "أنتي! لوين رايحة؟ ما بتعرفي أنو ممنوع تطلعي من وحدتك؟ شو عمتعملي هون؟ لا تكوني هربانة من المسيرة؟ لا تكوني معارضة وساكنة هون معنا بالمدينة الجامعية؟". تجمّدت في مكاني، وكأنّ الدم توّقف عن التدفق داخل شرايين جسمي، رعشات باردة تعتريني وكلّي خوف من الالتفات إلى الوراء. رأسي فارغ، ولا فكرة تخطر على بالي لأجيب بها، كيف لم أفكر بهذه اللحظة؟ تباً.
تشرّبنا الخوف كما الحليب منذ صغرنا، ومُنعنا من الاحتجاج، أو حتى من مجرّد التعبير عن استيائنا من الأوضاع الاقتصادية أو الحديث في السياسية لمجرّد تفريغ الضغط والتعبير عن استياءنا.
استدرت ببطء شديد نحو الوراء، نظرت إليه وأخبرته أنّ مسؤولة وحدتي طلبت مني الخروج إلى الباب الخلفي للسكن الجامعي لأحضر بعض الصبايا اللواتي لم ينمن في وحداتهن البارحة، وبأنّي سأحضرهن وأعيدهن إلى وحدتنا السكنية. عمّ صمت مخيف، قطعه قائلاً "يلا روحي بسرعة ورجعي بدي ارجع شوفكن"، أجبته: "طبعاً طبعاً ولو...".
وصلت إلى الباب الخلفي، وبدا لي من بعيد، وقبل أن أصل إليه حتى، أنّه كان مغلقاً. أحادث نفسي ثانية: "ماذا أفعل؟ هل فشلت؟ هل سأستسلم؟ هل ذهب كلّ تعبي وجهدي في مهبّ الريح؟ هل سأخرج مع هذه الحشود بمسيرة مؤيدة للنظام؟ تباً تباً...".
استدرت وعدت أدراجي بخيبة رهيبة، نظرت إلى يساري إلى سور المدينة الجامعية العالي، والذي كان عبارة عن قضبان حديدية متباعدة عن بعضها، أمشي وأفكر... أمشي وأفكر، وأقول لنفسي "لكنّي لم أتسلقه يوماً". تذكرت تجربة لي في مراهقتي عندما كنت أهرب من دروس التربية الإسلامية في المدرسة الإعدادية، وكيف كنت أتسلّق السور القصير للمدرسة لأهرب منها إلى مكتبة المركز الثقافي العربي القريب منها. كنت أتسلّق الحيطان سابقاً ولم أستسلم، لكن على الأقل عليّ أن أستنفذ جميع خياراتي كي لا أندم فيما بعد. اقتربت من القضبان الحديدية للسكن الجامعي، حقيبتي على ظهري، خلعتها ومرّرتها بين القضبان ورميتها خارج السور، ثمّ تسلّقت وتسلّقت والخوف يرافقني في كلّ لحظة وفي كلّ نبضة قلب، لأنّ فشلي وارد الحدوث في أيّة لحظة. وفجأة رأيت شاباً يعبر الطريق من أمامي، ناديت عليه وطلبت منه أن يمسك حقيبتي التي أسقطتها قبل تسلّقي وأن يرشدني في خطواتي ويتحدّث إليّ لأنّ ارتجافي وخوفي كانا يزيدان من بطء حركتي وخطواتي. كما طلبت منه أن يبقى معي إلى أن أنجح في محاولتي في الوصول إليه، ثمّ أن يسير معي حتى أعبر الباب الخلفي للسكن الجامعي بأمان. انتهت العملية بنجاح وشكرته كثيراً، ثمّ مضيت إلى منزل إخوتي في مشروع دمر ونشوة عارمة من الانتصار تغمر كلّ كياني بذاك النجاح العظيم رغم بساطته.
العمل مع المهجّرين
في أواخر عام ٢٠١٠، أي قبل عدّة أشهر من بداية الثورة، تمّ قبولي للعمل كمتطوّعة في منظمة الهلال الأحمر العربي السوري/ فرع دمشق في منطقة أبو رمانة. كنت أعمل مع ذوي الاحتياجات الخاصة ودور المسنين إلى أن بدأت الثورة. حينها تمّ فتح قسم خاص للدعم النفسي، وأيضاً ورشات عمل للتعريف بالدعم النفسي وأهميته وسبب الحاجة إليه في ظلّ الظروف الصعبة والاستثنائية، إضافة إلى قسم التشخيص النفسي للاضطرابات النفسية والعقلية، والإحالة لأخصائيين وأطباء نفسيين وعقليين من أجل تقديم العلاج النفسي أو الأدوية النفسية اللازمة في حالات الضرورة.
وعندما بدأت حالات الهجرة والنزوح داخل سوريا من منطقة إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى تجنّباّ للقصف والموت والخطر، قام النظام السوري بإخلاء عدد غير قليل من المدارس في دمشق وضواحيها لجعلها مكاناّ لاستقبال المهجرين، وفي نفس الوقت لإبقائهم تحت نظره وسيطرته. تلك الأسر المهجّرة، منها من كان معارضاً، ومنها من كان موالياً، ومنها من كان رمادياً. كان وجود المهجرين في المدارس، أشبه بالمعتقل في مراكز اعتقال، سواء من ناحية تقييد حرية الحركة والخروج من المدرسة أو العودة إليها، أو من ناحية توزيع وجبات الطعام والسلل الغذائية، أو من ناحية توزيع الأسر في غرف المدرسة مع انعدام الخصوصية والأمان فيها، أو من ناحية تعامل عنصر الأمن الذي كان يحرس باب المدرسة، وعلى كتفه سلاح دون أيّ مراعاة لوجود الأطفال، أو خوفهم وارتيابهم (الأطفال) في تلك المدارس. كان على كلّ من يريد من ساكني المدرسة الخروج إلى مكان ما، أن يقوم بتسجيل اسمه وتحديد وجهته، ولماذا يريد المغادرة ومتى سيعود. أمّا وجبات الطعام، فكانت الكمية توّزع حسب عدد كلّ أسرة، وبكميات محدودة وغير كافية على أيّة حال، ما كان يفرض على ساكني المدرسة من الرجال البحث عن أيّ عمل من أجل كسب القليل من النقود لشراء الحاجيات الضرورية لأسرته وأطفاله.
أمّا توزيع العائلات في غرف المدرسة فكانت الأسوأ، وبدت كمهاجع السجن تماماً، حيث تمّ تقسيم الأسر حسب حجم الغرفة، وليس حسب عدد أفراد كلّ أسرة. الغرف الكبيرة تتسع لأربع عائلات أو خمسة، ويتم الفصل بينها من خلال الأغطية العسكرية التي يتم وضعها على شكل ستائر، ويتم تثبيتها على الجدران بحبال ومسامير، دون أيّة مراعاة لحاجة تلك الأسر للخصوصية، أو الأمن والأمان ليلاً خاصة في مسألة نومهم بجانب عائلات أخرى غريبة عنهم تماماً في نفس المكان.
رجال الأمن كانوا هم المسؤولون عن تلقي الشكاوي المقدّمة من قبل ساكني المدرسة، وهم من كانوا يتعاملون معها، وغالباً ما يتم تجاهل الشكاوى، كما كان يتم التعامل مع العصيان والمشاكل بقدوم عدد من العناصر بأسلحتهم لترهيب النازحين والمهجرين وأطفالهم كي يلتزموا الصمت ويخضعوا للقواعد المفروضة. أمّا المشاكل المتعلّقة بالأمان، فكانت تبدأ غالباً حين ننهي عملنا كفريق ونغادر المدرسة، وفي صباح اليوم التالي كنّا نسمع عن محاولات تحرّش واغتصاب، وأحياناً اغتصاب للأطفال أو المراهقات أو المراهقين خلال ذهابهم إلى دورات المياه ليلاً. وللأسف، لم تتغيّر الإجراءات ولم يُعرف أو يُعاقب الفاعلون.
اعتقال ابنة خالي ميسا
في بداية عام ٢٠١٣، كانت ميسا ابنة خالي تساعد وتسعى لنقل عائلتها من مدينة حلب إلى دمشق، بعد أن أقنعتهم بالاستقرار في مكان قريب منها في جرمانا في ريف دمشق. ولكن تم اعتقالها بسبب نشاطها في الثورة، قبل أن تتمكن من نقل أسرتها.
لم تكن حينها تجمعني بها أيّة علاقة سوى القرابة، مقابل علاقة قوية مع أختيها سمر ورشا، إذ عشت معهما لشهور، وكنّا سمر وأنا الأقرب لبعضنا البعض. في تاريخ ٢٣ نيسان٢٠١٣ تلقيت اتصالاً من رشا التي كانت وحدها في منزل جرمانا، وأخبرتني أنّ ميسا اعتقلت. ورغم محاولاتنا غير المجدية في محاولة الاتصال بها خلال ذلك اليوم، إلا أنّها أجابت فجأة في المساء على اتصالي وأخبرتني أنّها اعتقلت، وأنّ عليّ أن أنظّف المكان لأنّ الأمن بالتأكيد سيقوم بمداهمة منزلها وتفتيشه.
رشا متوترة وعاجزة عن فعل أيّ شيء، ومع ذلك تواصلت مع عائلتها وأخبرتهم بما حصل. أمّا أنا فقمت بتجميع أشيائها وأشياء صديقها التي كانت موجودة في منزل جرمانا، وطلبت من إحدى صديقاتي الاحتفاظ بالحقيبة على أن أعود لأخذها خلال يومين كي لا أعرضها للخطر. آنذاك، خفت أن أوّرط صديقتي، ولذلك طلبت منها ألّا ترى ما في داخل الحقيبة لأنه كلّما قلّت معرفتها كان أفضل لها. ذهبت بعد ذلك إلى غرفة ميسا في مشروع دمر، وجمعت كلّ الأشياء التي كان من الممكن أن تقوم بتوريطها وأخفيتهم في غرفتي، لكن بحذر شديد جداً. وبالفعل قام عناصر الأمن باصطحاب ميسا إلى منزلها وقاموا بتفتيش كلّ شيء في غرفتها وبعثروها تماماً لكنهم لم يجدوا شيئاً.
وبعد هذه التطوّرات، أجّل أهل ميسا انتقالهم إلى جرمانا. أمّا أنا، فكنت أنهي عملي وأعود إلى المنزل فوراً على أمل تلقي أيّة مكالمة عن ميسا أو مكان اعتقالها. وبعد حوالي الشهرين، تلقى أحد ساكني المنزل مكالمة من شخص طلبني بالاسم، ثمّ أعاد الاتصال مرّة أخرى وأخبرني أنّه يريد أن يراني، وبأنه من طرف ميسا. بدا لي (آنذاك) مشبوهاً، ولكن كان دافعي لأعرف أيّ خبر أو معلومة عن ميسا يفوق خوفي وحذري، وحتى قلقي وعواقب أفعالي، لذا اتصلت بأحد الأصدقاء وأخبرته بأنّني أريده أن ينتظرني في ساحة الميسات ليرافقني لمكان رؤية ذلك الشخص، وطلبت منه أن يبقى بعيداً ويراقب، من أجل حمايتي في حال كان ذلك اللقاء كميناً من قبل الأمن.
الصديق الذي طلبت مساعدته، كنت أعرفه من خلال عملي في قسم الإغاثة التابع للهلال الأحمر، كنت أساعد في توزيع السلل الغذائية للعائلات المهجّرة في ساحة الميسات، ومن خلال عملي في الإغاثة تعرّفت على أسماء بعض الجمعيات المعنية بتقديم خدمات مجانية لمساعدة الأسر المتضرّرة.
ولاحظت خلال عملي في قسم الإغاثة، أنّ هناك طلب مستمر من قبل الكثير من العائلات، وخاصة الأمهات، لتوفير علب حليب للأطفال. ونتيجة تجاهل هذا الطلب بشكل مستمر، قرّرت العمل بمفردي وتواصلت مع تلك الجمعيات المعنية بشؤون الأسرة والطفل. وبعد تدوين وكتابة أسماء العائلات التي كانت تحتاج إلى علب حليب وحفاضات لأطفالها، وكتابة أعمار أطفالهم، قمت بالتواصل والذهاب إلى تلك الجمعيات. بعضها لم يتعاون، وبعضها الآخر تعاون بسهولة، حيث قمت بتجميع علب الحليب والحفاضات وتوزيعها بشكل تدريجي، يومي أو أسبوعي، وذلك حسب توّفرها. أحيانا كنت أمشي على الأقدام، وفي أحيان أخرى كنت أستخدم المواصلات، كيلا يتم الإمساك بي بتهمة تهريب الحليب والحفاضات.
المهم، قابلت الشخص الذي اتصل بي وأخبرني أنّ زوجته وميسا موجودتان في فرع كفرسوسة، وبأنّ ميسا هي من طلبت منه مقابلتي لأنّها تريد أن تعرف أيّ خبر عن عائلتها وتطمئن عليهم. أخبرته أنّني أريد التأكد من هويته، وفيما إذا كانت زوجته معتقلة بالفعل مع ميسا، وأخبرته بحذر أن يطمئن ميسا ويخبرها أنّ أهلها بخير وانتقلوا إلى المنزل الجديد، وأنّ كلّ أمورهم بخير، كما طلبت منه أن يحضر لي معلومة خاصة أو ورقة من ميسا كي أستطيع الوثوق به.
في اللقاء الثاني كنت قد جهزت ورقة صغيرة لميسا لأعطيه إياها في حال وثقت به، وكتبت فيها أخبار جيدة على النقيض من الواقع. لم أستطع إخبارها أنّ أهلها بعد أن جاؤوا دمشق بعد فترة من اعتقالها، تركوا المنزل وقرّروا العودة إلى حلب، وبأنّ رشا ستنتقل قريبا إلى تركيا. لم أرد أن يخيب أملها أو أن أشعرها بالعجز أو أزيد ظلمة على ظلمتها في مكان قاسٍ ومظلم كذاك المكان الذي كانت فيه.
بالفعل، استلمت منها ورقة تثبت صحة كلام ذلك الشخص، ومع ذلك قرّرت الذهاب بمفردي إلى فرع كفرسوسة. وبعد أن جهزت ورقة صغيرة من الأمل، وبعضاً من ملابسها، ذهبت إلى الفرع. قبل دخولي، بحثت عن مطعم يبيع الصندويش وطلبت منه أن يجهز لي ثمانية سندويشات، وقبل أن يلف الأخيرة طلبت منه أن يضع رسالتي الصغيرة التي كنت قد صغّرت حجمها قدر المستطاع وغلفتها بكيس نايلون صغير كي لا تترطب وتضيع حروفها والأمل الذي كان فيها.
في صباح اليوم التالي كنّا نسمع عن محاولات تحرّش واغتصاب، وأحياناً اغتصاب للأطفال أو المراهقات أو المراهقين خلال ذهابهم إلى دورات المياه ليلاً. وللأسف، لم تتغيّر الإجراءات ولم يُعرف أو يُعاقب الفاعلون.
كان لطيفاً ومتعاوناً، وفاجأني بقبوله السريع الخدوم اللطيف. حملت سندويشاتي وأملي وذهبت إلى الفرع. وبعد تفتيشٍ طويل على الباب، وجلوسي لساعات طويلة في انتظار أن يوافق رئيس الفرع على رؤيتي، أدخلوني إليه. كان يبدو بصوته الرهيب الخشن وجثته الضخمة كالوحش، سألني لمن الأغراض التي معي، فأخبرته أنّ قريبتي هنا ولا أحد لها سواي، وأنها طيّبة، ولا شأن لها بالسياسة، وبأنّني أحضرت لها بعض الثياب والطعام، لا شيء آخر.
نادى على أحد رجال الأمن وقال "نزلها لتحت". وقفت عند الباب الحديدي الذي يودي إلى القبو الذي كانت فيه. بضع درجات فقط، تفصل بينها وبيني، وكلّي أمل في أن ألمحها وأعطيها الأغراض بنفسي، لكن عنصر الأمن لم يسمح لي وأخبرني أن أرحل، وإلا فلن يعطيها ما جلبته لها. رجوته وقلت له بأنّي لن أتحدّث إليها أبداً، وبأنّي فقط أريد أن ألمحها لأطمئن أنّها بخير، لكنه أصرّ على موقفه، فرحلت.
شعرت بخيبة أمل، باب واحد فقط وعدّة درجات كانت تفصل بيننا، ورغم ذلك لم أتمكن من رؤيتها. لكن فجأة تذكرت الرسالة التي وصلتها للتو وعاد الأمل من الجديد ليغمر بقية يومي.
مرّة كل أسبوع أو مرتان كنت أذهب إليها وأعيد نفس المحاولة بانتظام، إلى أن أخبرني رئيس الفرع في أحد الأيام بأنّها لم تعد موجودة هناك. اعتراني القلق لمدّة أسبوعين، إلى أن اتصل بي أحد الأشخاص على رقمي الشخصي الذي كنت قد أعطيته لها في إحدى الرسائل، وأخبرني أنّها في فرع الميسات، فذهبت والتقيت به وأعطيته المال الذي طلبه، ثم اختفت مرّة أخرى. تواصلت مع الرجل (زوج المعتقلة) الذي قابلته سابقا فأخبرني أنّها في فرع كفرسوسة. ذهبت كالمعتاد مع بعض الأغراض والطعام ورسالة الأمل، لكن رئيس الفرع لم يسمح لي بتوصيل الأغراض لها، وبعد محاولات ومحاولات، سمح لي أخيراً بتوصيلهم إليها إلى أن اختفت من جديد، وعاد لي القلق والإحباط مرّة أخرى.
الكابوس... اختطاف سمر
خلال فترة اعتقال ميسا، وبتاريخ ١٣ آب ٢٠١٣، اختطفت أختها سمر من قبل داعش في مدينة الأتارب. كانت قد عادت للتو من مصر، ولم تستطع البقاء بعيداً عمّا يجري. كان خبراً صاعقاً ومؤلماً وحزيناً، ولم يكن لي قدرة على تحمّل المزيد من ذلك النوع من الأخبار، خاصة أنّ اعتقال واختفاء ميسا المستمر كان موجعاً بما يكفي ويفوق قدرتي على التحمّل.
فيما بعد، في أحد الأيام، تلقيت اتصالاً من محامية كنت أذهب إليها بشكل مستمر لتساعدني في قضية ميسا، وأخبرتني أنّ ميسا وصلت إلى سجن عدرا وأصبح بإمكاني زيارتها. وأخيراً، سأرى ميسا بعد غياب وقلق طويلين، كنت أذهب يومي الاثنين والخميس لزيارتها في سجن عدرا المدني للنساء، ويوم السبت لزيادة صديقها في سجن عدرا المدني للرجال، واحتفظت لنفسي دائماً بالأخبار السيئة. وعندما سألتني عن سبب عدم زيارة أهلها لها، أخبرتها بأنّهم عادوا للعيش في حلب، ولم أطلعها على باقي التفاصيل.
خلال إحدى زياراتي لها في المعتقل، أخبرتني أنّ في المعتقل نساء لا تأتيهن أيّة زيارات ولا يملكن أيّ مال لشراء الطعام، وبأنّ طعام السجن لا يكفي، وبأنّ علينا أن نساعدهنّ بطريقة ما. قرّرت أن أتواصل مع أصدقائي وأن أرسل رسائل لأشخاص لا أعرفهم بشكل شخصي من خلال الفيسبوك والواتساب والفايبر، لربّما قد يرغبون بتقديم المساعدة. بالفعل قرّر فورا أحد أصدقائي (ديبو) أن يساعد. في كلّ زيارة لم يكن يسمح لي إلا بإيداع مبلغ معيّن، لذلك كنت أودع لميسا الحدّ الأقصى في كلّ زيارة، وتمّ تخصيص أموال الزيارة الأولى لها، وأموال الزيارة الثانية للنساء اللواتي لا يقوم أحد بزيارتهنّ، واستمرينا على هذه الحال لمدّة ستة أشهر.
وفي أحد الأيام من أواخر عام ٢٠١٣، كنت قد وصلت لتوي إلى مكان عملي في إحدى المدارس. تلقيت اتصالاً من صاحب المنزل الذي كنت أعيش فيه، ليأتيني صوتها الضاحك المفعم بالأمل. من صدمتي وغرابة الموقف، كنت أقول "مين؟"، فيما هي تقول لي "ولك هي أنا أنا.. أنا ميسا. أنا طلعت ولك طلعت، وينك تعي تعي... أنا بالبيت ناطرتك، طلعت أنا طلعت من السجن".
أغلقت الخط في وجهها وغادرت المدرسة دون أن أخبر أحداً، وكنت لا أزال في داخل رأسي على الأقل مع ذلك الصوت. أخاف أن أصدّق ذاك الحلم الجميل قبل أن أراه بعينيّ لأتأكد من أنّه ليس حلماً. أوقف تاكسي وأعطيه العنوان وأنا أحاول السيطرة على خيالي كيلا يحلْق بعيداً، فأصاب بخيبة أمل من جديد. وطوال الطريق إلى المنزل كنت أصارع خيالي الذي استمر في مقاومتي. أحاول أن أفكر في شيء آخر، لكنه مصرّ على التحليق. أحاول تشتيته لكنه يعيدني إلى تلك المكالمة وذاك الصوت. أقول لنفسي "لكنها هي، صوتها، ضحكتها". أخرج الهاتف من جيبي وأفتح سجل المكالمات لأتأكد من أنّه بالفعل رقم صاحب المنزل! بالفعل هو رقمه، هل أحلم أم أثابر في السيطرة على نفسي حتى أتأكد؟!
أصل إلى المنزل، أضغط على زرّ المصعد. قدماي لم تعودا قادرتين على حملي أكثر، أنتظر المصعد أم أصعد خمس طوابق؟ أقرّر الصعود لأنه بذلك سيتشتّت انتباهي إلى أن أصل، فلم أعد أطيق الصبر والاحتمال. أصل، أخبط على الباب والجرس معاً، هل سأراها؟ هل سأراها أمام عيني؟ هل سينتهي ذاك الكابوس؟ هل هي من ستفتح الباب لي؟ يُفتح الباب وأراها أمامي مبتسمة. لم أتخيّل ما سيحصل تالياً. أبكي وأجهش بالبكاء بصوت عالي، صوت أًخرج كلّ وجعي وخيباتي وفرحي وألمي في نفس اللحظة. جعلتها تبكي... وبكينا وبكينا إلى أن بدأنا نضحك.
ثمّة حدود للفرح
بعد قليل أرادت أن تستخدم الفيسبوك الخاص بي لأنّها لم تكن تملك صفحة لها بعد، أرادت أن تعرف ما الأخبار، وما جرى في غيابها. أعطيتها حسابي، وخلال تصفحها عرفت أنّ للفرح حدود، وأنّ سمر قد اختُطفت بعد اعتقالها بأشهر قليلة من قبل داعش، فانتهى فرحنا سريعاً وعدنا للبكاء والحزن، ومن هناك بدأت صداقتنا ميسا وأنا.
كان قد تمّ إطلاق سراح ميسا من سجن عدرا المدني للنساء نتيجة صفقة تبادل، وكان معروفاً وقتها أنّ من يخرج من المعتقل بصفقة تبادل، لن يبقى حرّاً لمدّة تتجاوز في أقصاها الشهرين، إلا ويتم إعادة اعتقاله بعد فترة قصيرة. وعلى هذا الأساس، كان الخوف يعتريني من أن نعيد كلتانا نفس الكابوس ونفس المعاناة. طوال فترة شهر كانت ميسا ترفض مغادرة سوريا، وخلال تلك الفترة تلقيت اتصالاً مجهولاً من شخص، قال لي "كيفك يا مريم؟ رح أسألك سؤال لمرّة وحدة بس، مين إلك بعدرا؟". سألته: "من أنت؟". أجاب: "أنا من فوق وبقدر أأذيكي. رح ارجع اسألك لآخر مرة: مين إلك بعدرا؟". أجبته بسخرية: "بما أنك حصلت على رقمي وتعرف اسمي وتعرف أنّي أذهب إلى عدرا، فأنت تعرف مين إلي بعدرا"، وأغلقت الهاتف في وجهه.
بسبب ذلك، اعتراني القلق وعرفت أنّ ميسا وأنا مراقبتان من قبل الأمن. فبدأت ألح أكثر وأكثر عليها للمغادرة لكن بطريقة أخرى. أخبرتها أنّها تفتقد أهلها وهم كذلك، وأنّ عليها أن تسافر لعدّة أيام كي تراهم في لبنان، ثم يمكنها العودة متى شاءت. مع أنّي كنت أعرف أنّها، وبمجرد خروجها من سوريا لن تستطيع العودة، لكنه كان السيناريو الأفضل لكلينا. وهكذا بدأنا بتجهيز أوراقها الرسمية، والتي سأرسلها لها بعد عدّة أيام من مغادرتها، مع سائق تكسي يعمل على خط الحدود السورية اللبنانية عن طريق صديق.
اتصلت مع صديقها الذي سيقوم بتهريبها إلى يبرود، ومنه إلى لبنان، وكنت معها خطوة بخطوة كي أضمن ألّا تُغيّر رأيها. وفي أحد الأيام، خرجنا في مساءً لطلب تكسي والذهاب إلى ضاحية قدسيا لقضاء الليلة الأخيرة معاً قبل مغادرتها، وأثناء انتظارنا لسيارة تكسي توقفت سيارة سوداء مفيّمة كي تقلنا لكنّنا تجاهلناها على الرغم من أنّ المشهد كان مقلقاً، ثم ركبنا التكسي واتجهنا إلى ضاحية قدسيا. وفي صباح اليوم التالي تعانقنا وبكينا ثمّ رحلت في السابع أو الثامن في بداية ٢٠١٤ كما أذكر.
وبعدها، عدت إلى مشروع دمر لأرتّب باقي غرفتها في حال قرّر الأمن مداهمة المنزل، وهذا ما حصل.
ىُمكن قراءة الجزء الثاني على هذا الرابط.