(هذه المادة جزء من ملف حكاية ما انحكت "أصوات كويرية، بإداة وإشراف المحرّر الضيف، فادي صالح).
يتذكر جان جينيه دمشق بلوعةٍ أكيدة، وحنينٍ خاص لغرامه الأوّل فيها بأحد سيناتها(١)، أثناء فترة خدمته في الجيش الفرنسي في سوريا نهاية عشرينيات القرن الماضي(٢). لم تكن تلك العلاقة سراً خافياً على أحد(٣)، بل منحت جينيه ثقة الدمشقيين الذين كانوا يقودونه لمعاينة الدمار الذي خلفه القصف(٤) على أجزاءٍ تاريخية حيوية من المدينة.
سيعود جينيه إلى سوريا مطلع عام ١٩٧٠ في بداية علاقته مع المقاومة الفلسطينية، وكان وقتها قد أصبح معروفاً في الوسط الثقافي السوري، خصوصاً مع تداول مراجعات عن كتاب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر "القديس جينيه ممثلاً وشهيداً"، التقى جينيه سعد الله ونوس في فندق سميراميس برفقة الشاعر السوري علي الجندي الذي سرد تفاصيل اللقاء في نص بعنوان كان يتحدث كأنّه يصلي(٥).
يخبرنا الكاتب والمترجم السوري غازي أبو عقل وهو أحد أصدقاء جينيه في دمشق، أنّ جينيه جاء إلى دمشق وغادرها دون أن تعلم الصحافة باستثناء جريدة الكلب التي لا يقرؤها أحد إلا محرّرها وأصدقاؤه. كان وقتها صدقي إسماعيل رئيس اتحاد الكتاب العرب هو من يصدر تلك الجريدة، وقد نشر هجاءً لجينيه الذي رفض زيارة الاتحاد وسخر من فكرة وجود اتحاد للكتّاب(٦).
كانت مغامرات جان جينيه الجنسية وسلسلة الفضائح المتلاحقة قد سبقته إلى دمشق، ونعلم من شهادة علي الجندي(٧)، أنّ جاذبية خاصة تجاه حياة جينيه كانت أكثر حرارة من أعماله نفسها التي مرّوا عليها مرور الكرام أثناء دراستهم الجامعية في دمشق آنذاك.
في أوتيل سميراميس جرى اللقاء بين جان جينيه وسعد الله ونوس، "أهذه يساريتكم؟" سألهما جينيه فور دخوله، متهكماً على طاولة العرق والمازة السورية الشهيرة بتعدّد أطباقها. أمّا سعد الله ونوس فقد سأل جينيه للمرة الثانية، بشهادة علي الجندي، "صحيح أنت هوموسيكسيويل؟". فقال: "لا تخف على نفسك هذه الليلة فأنا أصبحت عنّيناً بعد هذا العمر"(٨).
بعد أعوام عديدة من تلك اللقاءات في دمشق وباريس ستحضر المثلية الجنسية حضوراً علنياً في مسرح سعد الله ونوس مع مسرحيته "طقوس الإشارات والتحولات"، الصادرة عن دار الآداب ببيروت سنة ١٩٩٤، ضمن مساحة كويرية(٩) استثنائية في مدوّنة المسرح السوري المعاصر.
نستنطق في هذه القراءة المفردات الكويرية ورموزها، عبر تحليل الشخصيات الكويرية بما تمثله في السياق المجتمعي، أيضاً نركز على تداخل السياسي بالجنساني محاولين فهم بنية النظام المؤسّس للفوضى كما يطرحه النص.
الفضاء الدرامي للأحداث مدينة دمشق نهاية القرن التاسع عشر، الحكاية مقتبسة عن واقعة سردها فخري البارودي في الجزء الأول من مذكراته نقلاً عن الشيخ حسن النحاس تحت عنوان تضامن أهل دمشق، كانت قد حدثت فترة حكم الوالي العثماني محمد راشد باشا بين ١٨٦٦ و١٨٧١.
تنتهي حكاية البارودي في مذكراته عند حدود تحالف مفتي دمشق مع نقيب الأشراف حينما قبض عليه قائد الأمن العام مع عشيقته في أحد البساتين، وكيف تم لملمة القضية بحنكة المفتي الذي استبدل العشيقة بالزوجة، رغم العداوة التي تجمعه بالنقيب، والسبب كما نقل البارودي عن النحاس هو استهتار النقيب بمنصبه وعدم التزامه الديني.
نقرأ تأويلاً مختلفاً لدوافع شخصية المفتي المسرحية مع سعد الله ونوس، تضعه في مواقف تمثّل فهماً أعمق للسردية، فالحكاية ليست عن تضامن أهالي دمشق، بل عن نزاع مستميت على السلطة، وهو صراع معقد كونه يحدث في ظلّ احتلال أجنبي، وبين طبقات فرضتها أسلوبية النظام.
يؤكد المؤلف في تصديره أنّه لم يسع لمقاربة الحقائق الاجتماعية والتاريخية لتلك الحقبة، لكن تجدر الإشارة إلى أنّ الزمان الذي تحيل إليه الحكاية بالغ الأهمية؛ بل فترة مفتاحية في تاريخ سوريا السياسي، حيث أسّس ما كان يُعرف آنذاك بـ"مجلس سوريا" أوّل برلمان سوري في بيروت(١٠)، في سنوات حافلة بحركات تمرّد ضد التجنيد في جيش الاحتلال العثماني في اللاذقية وحوران.
سياسة الأهواء
يسود في المجتمع السوري نسق استمتاعي ستري(١١)، حيث تتحقّق الممنوعات شرط أن تكون في السر بعيداً عن العلانية أو الإشهار، تتباين بالتأكيد الحدود بين المسموح والممنوع بين الطوائف والأعراق والبيئات، لكن يظل نسق الستر مهيمناً على الثقافة العامة، وهو صياغة نصف دينية نصف سياسية، مهمته الحفاظ على توازنات النظم الاجتماعية ومصالح القوى التي تمثلها.
الطنط سمسم والتهاب الشهوة المزمنة
طنط أو طنطون والجمع طنطات وطناطين: كلمة ازدرائية بالعامية السورية تعني حرفياً مخنث، يُوصف بها كثيراً المثليون، وأحياناً مع بعض الخلط توصف بها النساء العابرات جندرياً، يستخدمها بعض المثليين للتعبير عن هويتهم الجندرية وتوّجههم الجنسي، الكلمة غالباً نفسها عن الفرنسية وبذات النطق. نستعيدها هنا من قاموس الوصم الاجتماعي ونضعها في سياقها الكويري التحرّري.
سمسم يمثل أسلوبية المثلية المتأنثة التي تؤدي كلمة طنط معناها، يمشي كما لو أنه يرقص، أو يخشق(١٢) شخصية سياقية عابرة لكنها شديدة التأثير، فهو يعيش بلا قناع، منسجم مع ذاته ومحيطه، مُعرَّف فقط بكونه موجوداً على الهامش، وهو موقع له شروط، سمسم يفهم نفسه حسبما يفهمه الآخرون، بوصفه دمية جنسية، دالاً مستمراً على السعار الجنسي، وأيضاً مصدراً للفكاهة والتندّر، "دعنا نتسلى قليلاً"، يقول عباس للعفصة حينما يرى سمسم.
الحكاية ليست عن تضامن أهالي دمشق، بل عن نزاع مستميت على السلطة، وهو صراع معقد كونه يحدث في ظلّ احتلال أجنبي، وبين طبقات فرضتها أسلوبية النظام.
يشكل الطنطات بظهورهم العلني تحدّياً لجميع من لديهم مثلية مبطنة، حضورهم انعكاس مرآوي لرغبات مدفونة مربكة، وأحياناً قهّارة. في النص يضع سمسم العفصة في موقف مُحرج يدفعه للإشهار القسري عن توّجهه الجنسي المثلي.
التعريف الاجتماعي الذي يتحرّك داخله سمسم إشكالي، يمثل الهوى السائب، والتجسّد غير المقموع للشهوة كهوية، الشهوة والغواية خطوط واقعية في ذهنية سمسم ودلالته، وبرغم القوة والحقيقة التي تتجلّى بها الرغبة الجنسية، يظل نكرة خارج سياق الهامش والمهمشين، لا يمتلك الحق في التمثل داخل المجتمع كذات ووجود.
لا يمر سمسم بخفة كما تُوحي مشيته وغندرته، بل يساهم مباشرة في كتابة مصير شخصيات أخرى، ولاحقاً سنرى أنّ الفوضى الذي تحدثها الثورة الجنسية المتمثلة بشخصية ألماسة، تضعه وأمثاله في موقع تهديد، أو موقع تساؤل واتهام بتحمّل المسؤولية عن الفساد الاجتماعي.
مصدر معيشة سمسم هو العمل في الجنس، وهي تجارة كما يسميها معروضة في السوق، ويبدو أنّ نشر الفضائح والطرائف من أهم أدوات الاستعراض التجاري الذي يؤديه في الأسواق، فهو "معلّم الصنعة" كما يصف نفسه، "الزكرتية فتحوا من الوراء، والأكابر فتحوا من قدام". يقول سمسم وهو يعلن للملأ سبب كساد تجارته، ذلك أنّ ألماسة (مؤمنة زوجة نقيب الأشراف سابقاً، ابنة عائلة أرستقراطية) والعفصة الزكرت السابق، يستعدان للنزول إلى السوق للعمل بالجنس.
عندما ينهر حميد العجلوني سمسم، وهو من التجار المحسوبين على المفتي، يقول سمسم: "يا حميد أفندي.. أنت لا خير فيك. لولا الجزر لكان حالك صعباً مع أهلك". يستطيع الطنطات دائماً النيل من فحولة مناوئيهم، فالعدو فاشل جنسياً يحمل الضغينة لكلّ ما هو شيّق وموسوس، يحسد الرجال الذين تتغلغل انعكاساتهم على رموش الطنطات كعدوى سرعان ما تنتقل إلى النساء في خدورهن، فينقلون إذ ينظرون صوراً وتخييلات بذيئة إلى الأسرة وغرف الزوجية المستورة.
البترا العفصة والمثلية الصوفية
بترا والجمع بتاري أو بترات: مصطلح كويري سوري تشفيري، متداول بشكل حصري داخل المجتمع الكويري السوري المعروف باسم الجوّ . كلمة بترا تشير بمعناها الدقيق إلى الأشخاص غير محدّدي الهوية الجندرية، و/أو غير الخاضعين للثنائية الجندرية، اللامعياريين. ويرفض معظم المثليين المنسجمين مع هويتهم الجندرية المذكرة استخدام كلمة بترا للتعبير عن أنفسهم، فهي بالنسبة لهم تنميط للمتوّقع من المثليين بأن يكونوا متأنثين أو ناعمي الهيئة. نستخدمها هنا في سياقها الدقيق اللاثنائي لمقاربة هوية العفصة الجندرية التي يتقدّم نحوها ويكتشفها في رحلته القصيرة مع ظهوره العلني.
العفصة مثلي جنسياً، متحفظ على توجهه الجنسي، منسجم ظاهرياً مع هويته الجندرية المذكرة التي سيتخلى عن أهم رموزها المحلية لاحقاً بحلق شواربه، تتويجاً لانتصاره على مخاوفه من إظهار النصف الآخر لشخصية الزكرت، يصطنع بفعله ثورته الحالمة ضد النسق الاجتماعي القائم على مبدأ الستر رافضاً أن يكون له مخبر ومظهر حسب تعبيره.
يحمل العفصة شهوة بينية للسلطة، يُمكنه انتماؤه لطبقة الزكرتية من إخفاء توجهه الجنسي، حيث يحصر الوعي العام المثلية بالتأنث، تضعه شخصية الزكرت ضمن ثنائية الخضوع والهيمنة. يذكرنا العفصة بهذا الوجه بتحليل ممدوح عدوان لشخصية الشبيح، وللتشبيح عموماً، في دراساته عن العنف في كتابه "حيونة الإنسان"، حيث يرسم هيكلية لما يسميه السلبطة السلطوية التي تنتقل من أعلى لأسفل، تتغلغل ممارسات التحوين في مجتمع الشبيحة، وتنتقل بالاحتكاك، يمثل الشبيح رمزياً امتداداً لفالوس السلطة.
الطنطات والبتاري خارجون عن العرف والقانون ومعيار القبول الاجتماعي، أعداء طبيعيون لأي نظام قمعي بالضرورة، لأيّة تحديدات للممكنات البشرية، نماذج تاريخية للعقوبات الجماعية للعصاة، أمثولة قربانية دائمة للتذكير بالطاعة. قمع الرغبات والتسلّط على الأهواء يعني تقنياً مصادرة المخيّلة، يتوّصل جميع المتألهين إلى افتراض نظام كوني مثالي لا إمكانية للخطأ فيه، ممل وعديم القيمة تماماً مثل مخيلتهم الخصائية.
يسرد العفصة لعباس بابتهاج وحبور التحوّل الذي طرأ عليه "أذقتني مسرة كنت أبحث عنها طوال عمري.. إنك لا تعلم ماذا فعلت بي! لقد غيرتني، وقلبتني من أصلي".
في افتتاحية المشهد كنّا قد رأينا العفصة يقدّم لعباس هدية هي شواربه، ملفوفة داخل منديل حريري "خطر لي أن أقدم لك أثمن ما لديّ وآخر ما يميزني في عيون الناس". الشارب رمز أيقوني، يقسم الرجال ويتعهدون بإطباق السبابة والإبهام على الشارب، في مختلف البيئات السورية، يمثل الشارب الشرف الرجولي، يعبّر الرجل الغاضب المستعد للعراك عن حنقه بالتهديد بنتف شارب الخصم، يعني أنه سينال من شرفه ويلحق به العار.
يعيش العفصة في قلب هذه الاعتبارات، بل ويستفيد من امتيازاتها، فشوارب الزكرتية مميزة، زينة وحلية فريدة من نوعها، يتعلم الزكرتي تصفيف شواربه بأسلوب خاص، يفتل شواربه، ويستمر بالفتل، لتنتهي شواربه برؤوس مدببة، تشبه الشبرية أو الحربة على خاصرته، تتكثف النزعة الانتصابية في شوارب الزكرتي، تتسبب بوخزة كالدبوس وما يعنيه بلغتهم الخاصة.
لم يكن قناع الزكرت عبثياً، ولم يكن عبئاً، بل كان أداة استمتاع ولذة داخلية تنتهي بتجربة ثمرة أشهى وألذ بالنسبة للعفصة الذي عاش في انتظار تلك اللحظة. وهو ليس قناعاً بالمعنى الحرفي كما سنرى، لكنه لا يطابق تماماً رغبته الداخلية وتخيّلاته التي ستخرج من باطن لاوعيه بعد تجربته الجنسية مع عباس.
تقنياً يتعامل عباس مع تحوّل مفترض للعفصة قبل مشهد الشوارب، في اللحظة التي يبوح بها العفصة بسره، يتعمّد عباس خلط ضمير المذكر بالمؤنث في المخاطب:
عباس: أنت الآن حبوبتي، وسأضعك في عيني. اشرب.
العفصة (يحتسي جرعة وافرة): هذه الملافظ تجرحني..
عباس: انكشفت عليّ مثل حلالي. ولا داعي للتظاهر بالحياء.
العفصة: (وهو يمسك يد عباس، ويقبلها) أبوس إيدك.. استر.
عباس: (وهو يضع يده على رقبته) باطل.. وهل يفضح المرء حلاله!
الثمن الرمزي الباهظ للشوارب لا يفسّر دوافع العفصة، فهو يبدو من ناحية قهرياً، أو بأقل تقدير استجابة للتعريف الجديد في سؤال كيف يراني الآخر؟ "أردت أن أحلو في عينيك. لاحظت أنّ ولعك يخف، وأنك تبتعد عني، فأصابني فزع رهيب. وفكرت.. كيف أرضي حبيبي.. كيف أرضيه..!". من ناحية أخرى، يدخل الفعل في سياق تزييني وإغوائي: "أريد أن ترغبني، وأن تجدني حلواً وطرياً بين يديك. انظر.. نتفت شعري كله. ساقاي ويداي وكل شيء". يجيب العفصة على استهجان عباس.
على أي صورة أكون؟ السؤال الجذري للعفصة، "أردت أن تعرف أني تحولت، وأن لدي الشجاعة كي أعلن تحولي، وأواجه الناس به. قل لي كيف تريدني؟".
السؤال موّجه للمحبوب، لصورة متخيّلة عنه، في لا وعي العفصة، يمثلها عباس سطحياً، "لا تقتلني. ما فعلت هذا إلا من أجلك. إنه في بلدنا كالموت أو أسوأ من الموت". يقاوم العفصة مواجهة ما يوقنه في أعماقه مسبقاً، هو لم يفعل ما فعل لأجل عباس بل لأجل نفسه التي حظي باندماج سحري معها، يتذلل، يتوسل، يغص ويبكي، متلظياً بنار حبيب مزيّف، خطيئة العفصة التي تقوده للانتحار، حدثت على المذبح لو أعدنا تشكيل طقس التحوّل الخاص به، تقديم قربان مقدس لحبيب مزيف خطيئة قاتلة، الهوى كما نعلم مقترن نسقياً بالزيف والتزوير الذي يضعه العفصة شرطاً للحياة "هذه الدنيا ظالمة لا يعيش فيها إلا المزوّر أو الكاذب".
يشكّل الطنطات بظهورهم العلني تحدّياً لجميع من لديهم مثلية مبطنة، حضورهم انعكاس مرآوي لرغبات مدفونة مربكة، وأحياناً قهّارة.
يرقى قتلك لنفسك إلى منزلة الاعتراف، يحدّد ألبير كامو الانتحار: "إنّه الاعتراف بأنّ الحياة كثيرة عليك أو بأنك لا تفهمها"(١٣)، هل يتجاوز العفصة هذا القانون؟ ينتحر في لحظة وعي كاملة، يفقه النظام الاجتماعي، والحدود التي تفصل المراكز والمقامات، يرفض بموقفه الانتقال النهائي إلى عالم سمسم، الفضاء الأوسع للازدراء والتنكير، أم أنه يدلي بالاعتراف الأخير لنفسه؟ قبول حكم الإعدام واستحقاق العقوبة؟
يدخل العفصة في مجاربة مازوخية صوفية تشترك فيها شخصيات أخرى، يريد العفصة الاتحاد مع نفسه، ويريد المفتي الاتحاد مع الشيطان، وتريد ألماسة الاتحاد مع الطبيعة، ويريد عبد الله الاتحاد مع الله، الخطوط العامة لهذا المسار خليط من المعاناة والألم الضروريين واللذة السرية، بنية واحدة لتحوّل هذه الشخصيات، جميعهم يكتملون بتطلعاتهم، لكن الواصل الوحيد هو عبد الله، الوحيد المؤهل لهذا المقام: الدرويش البهلول المخطوف المبارك الممسوس، وعلى نحو ما الغلام الرباني.
ينغمس العفصة في عملية توحيد الباطن مع الظاهر أو المخبر والمظهر بتعبيره، تقوده مكاشفاته إلى التدمير الذاتي، خلع الستر أو التعرّي أمام الآخر يمنح تحديقة الآخر سلطة فورية، مع ذلك يمنح امتيازات الكشف والمكاشفة الواعدة ببصيرة جديدة ونفاذ أعمق: "غدوت كالماء في صفائه ووضوحه. كيفما نظرت إليّ ستجدني واحداً، هيئتي هي سريرتي، وسريرتي هي هيئتي.. هذا العشق هو الذي جرأني على نفسي وعلى الناس، وهو الذي يمدني بالشجاعة والحياة".
انتحار العفصة تنفيذ لحكم إعدام رمزي، "لا أستطيع أن أتراجع ولا أستطيع أن أتقدم"، أي في حالة بينية ضدية، في موقف من التمرّد اليائس، لا يستطيع أن يكون زكرتياً بعد، ولا يستطيع مجابهة الوصم بالعار الأكثر تدميراً من التعرّض للقتل وهو مؤكد بالنسبة للعفصة.
يتحدث في مونولوجه الأخير عن الشجاعة التي تحلّى بها والعذابات التي كابدها كي يتصالح مع نفسه. "لا أستطيع أن أندم"، فتنبثق آخر صورة له، مأساوية شاعرية، العفصة البطل الرومانسي المتساوق مع الموقف الدرامي من حياته بوصفه العاشق المغدور.
هل كان ينبغي أن ينتحر؟
وفق تركيبة الشخصية ومسار المعنى، تستهدف الفوضى المضادة التي يشنّها النظام الحاكم المتمثل بالوالي التركي في النص، تستهدف الفئات الأضعف الواقعة أصلاً خارج السياق المعياري، ينتحر العفصة وتُذبح ألماسة وتنهار مقامات العالم القديم ليبزغ النظام الجديد الذي تحدث عنه العفصة، حيث لا يمكن لأحد أن يعيش دونما كذب وتزوير.
نستطيع أن نفترض أنّ التبصر الذي توّصل إليه العفصة والتصالح مع النفس الذي عانى للوصول إليه كفيلان بجعله مندفعاً للمواجهة، وهي الخطوة المنطقية التالية لو شطبنا الانتحار، عندها سيصبح على محور قوة مضادة للسلطة المستقبلية لعباس.
القضية عباس والرغبة السيَّالة
قضية كلمة كويرية سورية، تُنطق بترقيق القاف إلى همزة، تُطلق على طيف من الرجال ذوي النزعة الفحولية ممن يغالون في إظهار الخشونة في المظهر والسلوك، ويميلون جنسياً للطنطات، والبتاري أو للشبان الذين تظهر عليهم ملامح الفتوة والذكورة، ولكن تختلف ماهية وسيكولوجية الانجذاب الجنسي لكل من هذه الهويات.
يجسّد عباس طيف من أطياف المثلية الجنسية الفحولية، مثليته سيالة مرنة وغير منضبطة، تحرّكه شهوة السيطرة، يشتهي عباس الرجال الأقوياء، والنساء الفاجرات بالمعنى البيئي لا الديني، الجنس لديه حالة تعبير دائمة عن الخوف والإذعان والسيطرة والخجل.
تبدأ علاقة العفصة بعباس بحضور سمسم وبمحض الصدفة، يعبر سمسم بالقرب من مجلسهما حيث يقرعان الكؤوس ويتحدثان، فيدعوه عباس إلى مجلسهما. "لا.. لا يصح. هذه نجاسة". يعترض العفصة، "ما بالك! من يسمعك يظن أن مجلسنا في صحن الكعبة. أحب أن أناغشه قليلاً".
خلال الحديث نعلم أنّ سمسم مارس الجنس معهما سابقاً، يصف سمسم قضيب عباس بالخنجر، "لا يشفيها إلا ضربة من خنجرك". بينما يصف قضيب العفصة بحبة الرز، ويخبر عباس وسط ذهول العفصة ووعيده، بأنّ العفصة نفسه يشتهي من الرجال ما يشتهيه هو نفسه.
تنقلب المواقف بعدها، لا يتحدث عباس عن الحب، وإنّما عن الوصاية، "إذا كنت طيعاً ومرضياً، فسأكون خيمة تغطيك وتحميك". الخيمة هنا هي الستر الذي يحجب الداخل، حينما يظهر العفصة ما بداخله إلى الخارج يكون قد تخلّى عن الخيمة وعلة وجودها، يدفن العفصة رأسه في حضن عباس، "ستكون كما أنت.. ولن تشقى بعد اليوم". يقول عباس وهو ينحني عليه.
بترا والجمع بتاري أو بترات: مصطلح كويري سوري تشفيري، متداول بشكل حصري داخل المجتمع الكويري السوري المعروف باسم الجوّ .
مناغشة عباس لسمسم تعكس تلك الرغبة بمديح الفحولة والتفحش في إبرازها، وهو أمر لم يفهمه العفصة منذ البداية، شرح عباس هذا التصوّر لعلاقته بالعفصة قائلاً: "ما كان بيننا هو شهوة تزول مع قضاء الوطر. وكان يلذ لي أن أعلو رجلاً محسوباً على الزكرتية، وأن أرى قامته تنكسر وتتصاغر بين فخذي".
مثلية عباس فحولية، ذائقة خاصة بالرجال الخشنين ذوي البأس، وهي ممارسة أقرب لأن تكون طقوسية تحويلية، يحب نفسه ومثيله، نراه يفقد شهوته على الفور مع تجرّد العفصة من شعر جسده ولحيته وشواربه، "أي لذة سأجنيها من اعتلاء مخنث رقيع!".
أمّا علاقة عباس بسمسم فهي مجرّد ممارسة عابرة، ولمرّة واحدة فقط، مختلفة عن علاقته المدفوعة بغلمة الفحولة التي تغويه بالعفصة. يفتن العفصة عباس بملامحه الذكورية، نعلم أنّ العفصة أقوى بدنياً من خلال لعبة المكاسرة، وبالتأكيد أجرأ وأكثر شجاعة وتهوّراً، يطابق العفصة الاندفاع الذكوري الهجومي، زكرتية العفصة قناع رمزي، هي وجهه الوحيد، ما أن خلعه تمزّق، صار بلا وجه، سالت فحولته في كيان عباس، أصبح مرتبطاً به أشدّ ارتباط: "لا أتحمل أن تبتعد عني"، خرج العفصة من جلد، انسلخ، وامتص عباس أخر قطرة ذكورته البرية. لقد اكتسب عباس وعياً جديداً حول أهمية تنظيم البلطجة أثناء انهيار النظام للاستيلاء على السلطة، وأصبح هو نفسه نظام الفوضى، فالعنف يولّد عنفاً مضاداً، والدم يؤسّس للدم، وفي هذه الأجواء يهيمن الأكثر بطشاً، والأكثر مهارة في التزوير، عباس الأب الروحي للشبيحة.
سياسة الخصاء
تختزن الهيمنة السلطوية سلسلة تراتبية للنفوذ تقع على الأجساد كما تقع على الأفكار وأساليب المعيشة والتعبير، يمتلك الزعيم أو القائد الأعلى شرعية اختراق الأجساد، بالأحرى انتهاكها، فالأجساد عارية أمام السلطة، لا يخضع التعرّي العلني لعناصر الجيش لقواعد اللياقة مثلاً، فهم يفقدون ملكيتهم الخاصة، تذوب في كلية القائد.
تداخل الدافع الجنسي بالفعل السياسي لا يتوقف عند الإيحاءات السطحية الذكورية التي يصرّح بها رجال السياسة في حملاتهم الانتخابية وخطاباتهم ذات التمثيلات الأخلاقية هنا وهناك، أو الممارسات العنفية في السجون والمعتقلات، بل هي صيغة أو سلوك يتخلّل الإدارات التي تنفذ برامج السلطة ورؤيتها، تشكل المزاج العام للمجتمع والدولة، تتراءى في الفنون والتنظيرات التي تدعمها السلطة، في العمارة، والعلاقات الاجتماعية وأنظمة التعليم والصحة وغيرها.
في الكلام المتداول باللهجات العامية يتم استبدال الكثير من الكلمات والأوصاف ذات الصلة بالحرب والنصر والهزيمة بكلمات تدل على الفعل الجنسي، فالمنتصر ينيك المهزوم "ناشونا نيش الدواعش". أيضاً، يُنظر ضمنياً إلى المجتمعات والدول على هذا الأساس، في البورنوغرافيا العربية على السوشال ميديا، تنتظم قيمة السلعة بإضافتها إلى هوية وطنية، نقرأ دائماً عن "فحل عراقي أسمر نار"، صيغة مكرّرة يقابلها مثلاً "كويتي سالب بنُّوتي"، وكأنها ثنائيات أصلية يتم تطويرها حتى يتمكن الأشخاص من تكوين معجم لرغباتهم، تأتي الرموز من المتخيّل، لكن المخيلة تقوم فقط بالترميز، أمّا الدلالة فهي مستقاة من الواقع، فالعراق نسقياً اغتصب الكويت، دلالة تتفرع من أيقونية صدام، سبب الحرب، ونظرة العراقيين للكويتين سابقاً ولاحقاً، تبقى دلالة الكويت في هذا الإطار ملتبسة إلى حدٍّ كبير، فهي ليست مؤنثة قطعياً مثل سوريا ومصر ولا مذكر مثل لبنان والعراق والأردن، بل هي في حالة عبور ولا معيارية واضحة.
تقودنا هذه الإشارات إلى التفكير في البنية العميقة للنظام الذي يحكم القوى المتصارعة في النص، بمعنى آخر ما هي أسلوبية نظام الفوضى الذي يسقط فيه الأشخاص حينما ينشدون حريتهم؟ المسرحية تصف هذا الانهيار، حيث جميع الاختيارات الفردية الخارجة عن المعيار تودي بأصحابها إلى مواجهة تحوّل جذري وانقلاب، المشكلة ليست في حتمية تلك التحوّلات ومأساويتها، بل في بزوغ نظام مضاد يمتلك ذهنية الفوضى وقواعد إدراتها كما نلاحظ في الحوار الخاص جداً بين شخصيتين من الزكرتية المنقلبين إلى شبيحة وعناصر مركزية في النظام الجديد.
تتفاعل الشخصيات جميعها على اختلاف مواقعها مع التغيّرات التي تطرأ على حياتها ومحيطها، باستثناء الخصي الذي يظل خارج أي تعديل، وعلى الرغم من ظهوره الطفيف في النص، فبالكاد نلمحه في مشهدين فقط، المشهد السادس من القسم الأول المكائد، والمشهد العاشر من القسم الثاني المصائر، لكنه فعلياً يمتلك الأثر الأقوى والحتمي في سيرورة الأحداث.
في الظهور الأول يكون هو الوحيد المخوّل بالذهاب إلى السجن، بتكليف مباشر من الوالي، بغية التأكد من كون المرأة المسجونة مع نقيب الأشراف هي زوجته وليست عشيقته. وعلى الرغم من عدم اقتناع الخصي بسردية المفتي عن الحادثة، إلا أنّه اختار ألا ينقل شكوكه للوالي، ويؤجلها إلى ظهوره الثاني لغاية مختلفة.
بسبب تأكيد الخصي على سردية المفتي، يتم سجن قائد الدرك، هذه النتيجة تحديداً أثمن ما يمكن تحقيقه بالنسبة للخصي، لم يبق سواه ناصحاً ومشيراً على الوالي، الدليل الذي يقدمه مركزي في الحبكة ويبنى عليه كلّ ما يتعلق ببقية الشخصيات.
في الظهور الثاني يتسبّب مباشرة في رسم حتمية الموت في الحكاية، في هذا المشهد نرى الوالي متعجباً من فتوى أصدرها المفتي، تقضي بإهدار دم البغايا من الرجال والنساء وحرق الكتب غير الدينية وتحريم الغناء والرقص، كما أمر المسلمين بمهاجمة الأماكن التي تصنع الخمور.. يقرّر الوالي أن يلغيها بفرمان لخطورتها على استقرار مركز ولايته.
يتدخل الخصي على الفور، ويحذره من إلغائها وتأليب المسلمين عليه، وبدلاً من الإلغاء يطلب إليه أن يثني على الفتوى ويمتدحها ويؤجل تنفيذها حتى حصوله على موافقة الحكومة المركزية في اسطنبول.
تواطؤ الخصي بالكتمان أوّل مرة أسقط الجميع في متاهات الشك، وتدخله في قرار الوالي تسبّب بمقتل ألماسة وهياج المدينة.
الوالي مخاطباً الخصي: "أعترف أني لا أتمتع ببرودك وصفاء بالك. إنك تجعلني أغبطك على فقدان خصيتيك. أنت الوحيد المطمئن وسط هذه البلبلة".
يتحدث الوالي إلى الخصي عن قلقه على حياة ألماسة، يؤكد الخصي أنّها ستكون بمأمن إذا التزم بتأييد الفتوى، لكنها سرعان ما تواجه الذبح دون أيّة حماية.
نلاحظ أنّ الفتوى تستهدف مظاهر الاستمتاع واللعب، تقتل الزينة وتمنع المباهج، يقف الخصي في مواجهة مع المتعة، يرى الفرصة لذبح الأهواء ويقتنصها، هو جوهر النظام العميق، فالنظام مخصي، عاجز، مفتقد للخصوبة، لا يمكن أن يرتبط مع السياق الاجتماعي عبر أفعال بنائية، يحتاج باستمرار لإظهار القوة والطغيان، فهو في هيمنته على الأصلاب، يستعيد خصوبته المفقودة، أو ينهشها، ويصبح الانتهاك الغذاء الذي يضمن بقاءه.
بنية الخصاء مستمدة من الوضعية التاريخية للنظام، فهو سلطة بالوكالة، الوالي في دمشق هو الحاكم المحلي الممثل لحكومة احتلال، يستمد سلطته من فاعل آخر، ويؤسّس لتداولية الخصاء، الجميع مخصيون والسلطان الفعلي هو الخصي، يتضح هذا الأثر في علاقات الشخصيات، ومخطّط حياتها، عنصر عزيز مفقود أو ضائع يستقطب ردود أفعال الشخصيات، يتسامى هذا العنصر تبرزه اللغة الصوفية بتكوينات سادية ومازوخية تذهب بنا إلى تأويل إلهي للعنصر المفقود يعبّر عنه عبد الله نقيب الأشراف سابقاً، الذي يتوصل إلى حل هذا اللغز، "لقد بلغت. إن ضوءك يبهرني. أني أسيل كشمعة نحيلة، وأتلاشى فيك... إني أفنى، إني أفنى".
كويرية الأيام الأخيرة وتأويل الانهيار
يبني النص تصوّراً لانهيار نظام اجتماعي وسياسي، نستمد إشارات سابقة لهذا الانهيار من نماذج لفساد السلطة وانفصال رموزها عن الصالح العام، يحمل النص نظرة تشاؤمية، فنحن بصدد نمو نظام مضاد يمتاز بمعرفة قواعد الفوضى ومفاتيح الهيمنة القائمة على القمع والترهيب، يدعم استمرار هيكلية الرموز القديمة، ولكن بتفريغها من نفوذها وفاعليتها في صنع القرار.
بالنسبة للحضور الكويري في الحكاية، فإنّه سبقت الإشارة إلى فرادة هذا التمثيل في المسرح السوري، فالشخصية الكويرية تتكلّم وتتفاعل ولها صفاتها وعالمها، لكن مع ذلك نشير إلى وجوه إشكالية في هذا التمثيل:
(١): يمتلك الإرث الإسلامي الشفوي نسقاً للظهور الكويري يرتبط بالأيام الأخيرة أو نهاية العالم، حيث تتضمن ظواهر النهاية أو علامات قيام الساعة، أفكاراً عن العبور الجندري بوصفه إحدى تلك العلامات أو الإشارات، هذا النسق ينسجم مع التطوّر الدرامي للشخصيات ويكتب مصيرها. ينتعش هذا المعنى في فترات الحروب والاضطرابات، ويسهل استخدامه عند الحاجة لتمرير سياسات معينة، أو التغطية على أخرى لما للغرائبية الجنسانية من سطوة وفتنة على العامة.
(٢): يأخذ العفصة بعداً رومانسياً مأساوياً مطابقاً لمخيلة ألماسة والشخصيات المركزية الأخرى التي تختبر تحوّلات استثنائية، تستلهم شخصية العفصة فهماً جديداً للذات والمجتمع وتتخذ موقفاً من الحياة، ومن ثم تنتحر، وبمراجعة لبنية النص نفهم أنّ موت الشخصية ضرورة وفق المخطط البنيوي، فلو افترضنا نجاة العفصة من الانتحار نكون قد أجرينا تعديلاً محورياً على مقولة النص أو رؤيته المستقبلية، فالمشاهد الأخيرة بين العفصة وعباس، تبيّن لنا أنّ العفصة لديه القوة الكافية لمواجهة عباس وهزيمته، وعباس يمثّل صورة النظام الجديد المؤسّس على الفوضى، أي أن بقاء العفصة تعني الأمل بظهور المقاومة والأمل بشعرية التمرّد.
(٣): قدّم النص شخصية سمسم الذي يمثل الطنط في المجتمع ضمن حالة سلبية تقليدية، أي أنّ حضوره لم يكن سوى دلالة على الفوضى حسب السياق الدرامي، لا يمنحنا النص فرصة لكتابة تاريخ للشخصية، وإنّما يجعلنا ننظر إليها بما آلت إليه، لا يبرز النص أيّة قيم أو مشاعر خاصة بشخصية سمسم سوى الدلالة على السعار الجنسي والانصياع للموقع الهامشي المخصّص للخطأة والمنبوذين.
لا نحمّل النص أكثر مما يحتمل، فالشخصيات تمثيلات رمزية، لكن نشير إلى هذه الملاحظة للتذكير بأنّ الأفراد، وما ينبثق عن حيواتهم من تمثيلات شخصية هم سلسلة من الأحداث والزمن المتصل ماضياً وحاضراً، والإصغاء أو التمثيل الفعلي في المسرح نوع من الشعرية القائمة على اختلاس النظر على تلك الخصوصيات والخفايا، المشاعر والمخيّلة والأفكار، وبالنسبة للمجتمع الكويري السوري هنالك الكثير من الشعرية والمأساوية التي لطالما عايشناها مع السرديات الحياتية للكثير من الطنطات على نحو خاص.