مقدمة السلسلة[1]
"وضع الإعلام وحرية الخطاب في روجافا أفضل من أي منطقة أخرى في سوريا". كان هذا تنويهاً متكرّراً سمعناه من الصحفيين والسياسيين المحليين خلال مناقشاتنا لوضع الإعلام في كردستان السورية، أو ما يُعرف باسم روجافا.
ولكن التفوّق على جميع المناطق الأخرى في سوريا، أحد أخطر بلدان العالم بالنسبة للصحفيين، لا يعني الشيء الكثير عند الحديث عن حال الصحافة وحرية التعبير. كما أن هذه الجملة يفسّرها كثيرون بطرق مختلفة، بحيث صارت فعلياً بدون معنى.
يستخدم بعض الصحفيين المحليين هذه الجملة ليقول أنه، وفي ضوء السياق الحالي، لا يحق لهم الشكوى. وبالفعل، فهوامش الحرية في روجافا أوسع من أي منطقة أخرى في سوريا، أو حتى البلدان المجاورة. فهناك تسامح مع بعض صور النقد، وهناك مساحة حراك للمجتمع المدني، ولو أنها محكومة بسقف معيّن. كذلك تجد الأحزاب المناهضة للإدارة الكردية مساحة للعمل بالرغم من الضغط الدائم المفروض عليها.
فيما يرى الصحفيون الآخرون أن هذه المقولة أقرب إلى تبرير للوضع القائم. فمقارنة الوضع مع باقي سوريا هي ذريعة تتمسك بها السلطة العلمانية ذات الأغلبية الكردية لفرض مزيد من السيطرة، ولجعل الأصوات المحلية تواسي نفسها بهامش حرية التعبير المحدودة التي يتمتعون بها حالياً.
نتناول في هذه السلسلة المكونة من أربعة أجزاء بيئة الإعلام في شمال شرق سوريا. وستركز المقالات الثلاث الأولى على تحليل السياق الإعلامي في روجافا، فيما ستُخصص المقالة الرابعة للحديث عن الرقة ومحيطها.
لم تكن التجربة الإعلامية في روجافا منفصمة عن الظروف السياسية الاستثنائية التي شهدها الإقليم في السنوات الأخيرة. وفي ظل الروابط القوية بين المشهد السياسي العام وهذه التجربة الإعلامية، لن يكون من الممكن أن نفسر العلاقة بين الإعلام والسياسة، وأيضاً هوية الإعلام موقع النقاش هنا، باعتماد نفس المعايير التي نستخدمها في أقاليم أخرى. فوسائل القياس المعيارية، مثل تقارير حرية الصحافة الصادرة عن صحفيين بلا حدود أو فريدم هاوس، تختزل تعقيدات وتقلبات السياقات التي نتعامل معها، ولو أنها مفيدة في سياقات أخرى يغلب عليها التراكمية والاستقرار النسبي. فنحن نتعامل هنا مع أوضاع تباينت فيها درجات الرمادية، وليس مجرد واقع يمكن بكل بساطة وصفه بالسواد أو البياض.
لم تكن التجربة الإعلامية في روجافا منفصمة عن الظروف السياسية الاستثنائية التي شهدها الإقليم في السنوات الأخيرة
سنحاول توصيف هذا السياق من زوايا مختلفة، من النظام القانوني الذي يحكم المجال الصحافي، إلى الخريطة الإعلامية، والتنوع الإعلامي، والهويات الثقافية التي تنبثق من المجموعات الإثنية والدينية المختلفة التي تعيش في الإقليم وارتباطاتها التاريخية بالأرض السورية. وسنركز أيضاً على جيل جديد من المنافذ الإعلامية "المستقلة" التي ازدهرت بعد 2011 في هذه المنطقة، كما حدث في باقي مناطق سوريا. وتعني تسمية "المستقلة" هنا الجهات الإعلامية غير المحسوبة على الأحزاب السياسية المحلية، والتي تتلقى تمويلها بصورة رئيسية من منظمات غير حكومية أميركية وأوروبية.
ونأمل أن نستطيع في هذه السلسلة تسليط الضوء على واقع هش، سيشهد بلا شك تغيرات جذرية في المستقبل القريب إذا ما تأكد بالفعل انسحاب القوات الأميركية.
سياق روجافا
سمح سياق النزاع السوري لبعض الكتل السياسية والعسكرية أن تنتزع مقاليد الحكم في شمال سوريا بحكم الأمر الواقع، وتعرف هذه المنطقة اليوم باسم الفدرالية الديمقراطية لشمال سوريا (أو روجافا-كردستان الغربية).[2]
في البدء نأى إقليم شمال سوريا بنفسه عن أهوال النزاع السوري بعد عقد معاهدة غير رسمية بين حكومة الأسد وحزب الاتحاد الديمقراطي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني)،[3] وهو ما سمح للأخير بإدارة هذا الإقليم الذي بات مستقلاً بذاته بصورة متزايدة، إضافة إلى تجنب القصف الجوي. بل تنبهت دمشق، في الواقع، بصورة تدريجية إلى قدرتها على استخدام ورقة حزب الاتحاد الديمقراطي ضد المعارضة التي يغلب عليها الطيف العربي، ووصل الأمر إلى تحالف قوات حكومة الأسد مع الميليشيات الكردية ضد الثوار في أكثر من مناسبة. ولكن انزلق إقليم روجافا إلى صراع عسكري موسع بسرعة مضطردة بعد ظهور داعش (التي تطلق على نفسها اسم الدولة الإسلامية) في 2014. ولكن نجحت القوات الكردية، بالرغم من التطورات الجديدة، في الحفاظ على أمن مناطقها مقارنة بالمناطق الأخرى في سوريا بفضل الدعم الأميركي.
وسمح ذلك بتأسيس عدد غير مسبوق من منظمات المجتمع المدني والجهات الإعلامية التي ازدهرت منذ عام 2011 في بيئة مواتية نسبياً، وقد وجدت نفسها بعيدة عن الدمار المهول الذي حل بسوريا (باستثناء عفرين الواقعة حالياً تحت سيطرة تركيا). وضمّت هذه المنصات الإعلامية جهات كانت محسوبة بشكل أو بآخر على الأحزاب السياسية، ومؤسسات أخرى تأسّست بشكل مستقل، حسب ما أعلن عنها رسميا على الأقل. واشتملت هذه المؤسسات على قنوات تلفزيونية، ومحطات إذاعية (سواء على موجات الإف إم أو عبر الإنترنت) وصحف ومجلات إلكترونية ومطبوعة، ووكالات ومواقع إخبارية.
السياق التشريعي
بدأت محاولات الإدارة الذاتية لتنظيم المشهد الإعلامي الذي كان في بدايته غارقاً في الفوضى في تموز 2012 بتأسيس اتحاد الإعلام الحر. وكانت هذه الجهة، حسب الإعلان الرسمي عنها، "منظمة مجتمع مدني مستقلة" وفقاً لتعريف أحد رؤسائها (الرئاسة مشتركة، وأغلب مؤسسات روجافا ذات رئاسة مشتركة بين رجل وامرأة) شهناز عثمان.[4] وأوكل هذا الاتحاد في البداية بمهمة إعطاء الرخص للجهات الإعلامية. ولاحقاً، في كانون الأول 2015 على وجه الدقة، أقرت الإدارة الذاتية قانون إعلام جديد. ويحكم هذا التشريع حالياً الحقل الصحافي في روجافا.
ويحمي القانون حرية التعبير والاستقلال الصحافي بوصفها قيماً جوهرية. ويضع القانون، في نفس الوقت، مدونة سلوك يتوجب على الصحفيين الامتثال لها، مثل تجنب المحتوى العنصري، والتحريض على العنف، واحترام خصوصية المواطنين، وصون سرية الوثائق الرسمية (خصوصاً إجراءات المحاكم)، ونشر تصحيحات متى لزم الأمر. وبموجب هذا القانون، أيضاً، تأسس المجلس الأعلى للإعلام، وهي السلطة التي تمنح الرخص للجهات الإعلامية، والمراسلين، والصحفيين الذين يعملون بصورة حرة، بحيث يُطلب من هؤلاء الحصول على هذه الرخصة قبل العمل في روجافا التي تضم محافظة الحسكة والأجزاء الشمالية من محافظة الرقة، والأجزاء الشمالية الغربية من محافظة دير الزور.
وترى عثمان بأن أنشطة اتحاد الإعلام الحر أكثر "تكاملاً" من أنشطة أي اتحاد تقليدي آخر، أي أنها تشمل إقامة حملات إعلامية مثل "لا للصمت" التي كانت فعالية أقيمت في 2016 في القامشلي تضامناً مع مواطني نصيبين (النصف "التركي" من القامشلي، والتي استهدفها الجيش التركي في إطار هجومه على حزب العمال الكردستاني). ولكن تبقى هذه الأنشطة السياسية تدل على العلاقة العضوية بين اتحاد الإعلام الحر وحزب العمال الكردستاني و حزب الاتحاد الديمقراطي، وأخبرنا بعض الصحفيين الذين قابلناهم بأن الاتحاد لا يتبع السلطات فقط، وإنما أيضاً أذرعهم الأمنية (الأسايش).
يرى الاتحاد بأن "علاقات الوئام" مع السلطات تساعدهم على التعبير عن مطالبهم بما يصب في فائدة جميع الصحفيين. وتصف عثمان الحرية الإعلامية على المستويات المحلية بأنها "أفضل من البلدان المجاورة" ولو أنها تقرّ أيضاً بوجود هامش كبير للتحسن، خصوصاً عند الحديث عن معاملة القوات الأمنية للصحفيين. وتبيّن عثمان أيضاً أنه ما زال بعض أفراد قوات الأسايش يقوم باعتقال الصحفيين أو منعهم من تصوير مظاهرة "بسبب افتقار هؤلاء الأفراد للخبرة".
ولكن يوجد من الصحفيين من يرى خلاف ما تقوله عثمان، حيث لا يعتقدون بحرص الاتحاد على الوقوف في صفهم، بل إن بعض الصحفيين ينظرون إلى الاتحاد على أنه أداة سيطرة. فبكونه الجهة المسؤولة عن منح الرخص، استُخدم الاتحاد في كثير من الأحيان لفرض الضغط على الجهات الإعلامية وإعاقة قدرتها على تغطية ما يجري من أحداث. وسنتطرق إلى هذه النقطة بشيء من الاستفاضة في المقالة القادمة من هذه السلسلة.
ويظهر بأن الاتحاد الوحيد الذي يمكن وصفه، ولو تجاوزاً، بأنه اتحاد مستقل هو اتحاد الصحفيين السوريين الأكراد (الذي يُختصر اسمه إلى YRKS باللغة الكردية). وكان اتحاد الصحفيين السوريين الأكراد، الذي يعتبر منظمة وليس نقابة، قد تأسس في آذار 2012 على يد مجموعة من الصحفيين الأكراد الذين تخرجوا من كلية الصحافة في جامعة دمشق، وذلك بهدف تحسين سوية الصحافة في روجافا ودعمها. وقد عُقد أول اجتماع للاتحاد في القامشلي ودمشق في 2011.[5]
ونشر الاتحاد الميثاق الأخلاقي للصحفيين في روجافا. ويقدّم الاتحاد أيضاً برامج دعم وتدريب للصحفيين. وهو يلتزم منذ عام 2014 بنشر تقرير سنوي (بالعربية والكردية والإنكليزية) عن حرية الصحافة والانتهاكات في المنطقة. ويضمّ الاتحاد اليوم 70 عضواً، وله مكتب تنفيذي في القامشلي يتألف من تسعة أعضاء، منهم رئيس الاتحاد الذي يُنتخب من قبل الأعضاء الآخرين. ولكن تبقى هذه الرابطة غير مسجلة رسمياً، ويُضاف إلى ذلك مشاكل جذب التمويل. ووفقاً لكمال أوسكان، مدير مكتب اتحاد الصحفيين السوريين الأكراد في تركيا، فقد استطاع الاتحاد أن يبقى قائماً بفضل رسوم الاشتراك الذين يدفعها أعضاؤه من الصحفيين.
المنصات الإعلامية في روجافا
يمكن تصنيف الجهات الإعلامية في روجافا، بالاستناد إلى النظام القانوني الذي يحكمها، إلى صنفين رئيسيين: الجهات الإعلامية المحسوبة بشكل أو بآخر على الأحزاب السياسية، والجيل الجديد من المنصات الإعلامية التي تعرّف نفسها على أنها مستقلة.
وينزع الإعلام المتحزب إلى تقديم خطاب يغلب عليه التسييس. فيتبنى هذا الإعلام، بناء على ارتباطاته الحزبية، مقاربات مختلفة للحديث عن الجهات المنخرطة في النزاع السوري. ويرى كثير من الصحفيين الأكراد بأن هذا السلك الإعلامي يركز أكثر على السياسي والجيوسياسي على حساب القضايا الاجتماعية. وصحيح أن الإعلام المؤيد لحزب الاتحاد الديمقراطي يغطي القضايا الاجتماعية، ولكن في سياق تسليط الضوء على منجزات الحزب في ثورة روجافا، وخصوصاً المساواة بين الجنسين، والاهتمام بالبيئة، وأفقية المؤسسات السياسية. وتبقى الجهات الإعلامية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وأذرعه هي صاحبة الحضور والمتابعة الأقوى، كما أكد لنا جميع من قابلناهم من صحفيين، وتحديداً قناة روناهي التي تعد واحدة من أبرز القنوات التلفزيونية في المنطقة.
ويُعد الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومقره كردستان العراق، الخصم السياسي الأول لحزب الاتحاد الديمقراطي، وللحزب وجود داخل روجافا عبر قناتي روداو وكردستان24. إذ يتحكم أفراد من عائلة بارزاني بهاتين القناتين، ولو أنهما لا تتبعان للحزب بصورة رسمية. ولكن مقر كلا القناتين يقع في أربيل، وليس سوريا. ويجمع عدد من الأحزاب السورية الكردية الأخرى المناهضة لحزب الاتحاد الديمقراطي علاقات وثيقة بالحزب الديمقراطي الكردستاني، وهم أيضاً أعضاء في المجلس الوطني الكردي. ويمكن القول بصفة عامة بأن جميع الأحزاب، بغض النظر عن صغر حجمها، لها وسائط إعلامية مثل المجلات المطبوعة والصحف، ولو كانت أحياناً تعاني من توزيع محدود.
أما ما يُطلق عليه الإعلام المستقل، فهي جهات صغيرة نسبياً ولدت في أعقاب الثورة السورية. ويترتب على ذلك بالضرورة قراءة الاقتصاد السياسي الذي يحكم نشاطهم ضمن سياق ظاهرة الإعلام المستقل على الساحة السورية الأوسع. وتعتمد هذه الجهات بصورة رئيسية على دعم المنظمات غير الحكومية الدولية، والحكومات الغربية، خصوصاً في حالة الإذاعات. وتعتبر هذه الجهات أنفسها ملتزمة بالحياد السياسي، ولكن كثيراً منها تبنى في بداياته خطاباً ناقداً لحزب الاتحاد الديمقراطي، وكان ذلك بصورة رئيسية نتيجة لسيطرته الأحادية. ويقدم هذا الإعلام نفسه أيضاً على أنه ذو هوية سورية لا هوية كردية قومية. ويرجع ذلك، في جزء منه، إلى أن الشباب الذي أسسوه كانوا من نفس الرعيل الذي أشعل الشرارة الأولى لاحتجاجات 2011، والتي قمعت أيضا من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي.[6] هذا الإعلام أقل تركيزاً على الشأن السياسي من الإعلام المتحزب، ويميل أكثر إلى التركيز على القضايا الاجتماعية والثقافية. ويعتبر الإعلام المستقل نفسه، في نفس الوقت، صوتاً مباشراً للمجتمع المدني الناشئ، وبهذا فهو يلعب دوراً رقابياً في وجه السلطات.
ستدرس المقالتان القادمتان دور طبيعة وهوية الإعلام المستقل في روجافا بمزيد من التعمق.
المراجع:
[1] ترتكز هذه السلسلة على الدراسات التي قام بها إنريكو دي أنجيليس وأندريا غليوتي ويزن بدران حول ظروف الإعلام في روجافا والرقة بين عامي 2016 و2018.
[2] للحصول على لمحة عامة عن التاريخ الحديث للأكراد السوريين ونهوض روجافا، انظر:
Sary, Ghadi (2016). Kurdish Self-governance in Syria: Survival and Ambition. Chatham House, https://syria.chathamhouse.org/assets/documents/2016-09-15-kurdish-self-governance-syria-sary.pdf.
[3] للاطلاع على مناقشة معمقة عن الروابط التنظيمية وتلك الأيدولوجية بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني، انظر:
International Crisis Group (2017). The PKK’s Fateful Choice in Northern Syria, https://www.crisisgroup.org/middle-east-north-africa/eastern-mediterranean/syria/176-pkk-s-fateful-choice-northern-syria.
[4] مقابلة عبر سكايب مع شهناز عثمان، الرئيس المشارك في اتحاد الإعلام الحر، 10 آذار 2018.
[5] مقابلة عبر سكايب مع كمال أوسكان، مكتب اتحاد الصحفيين السوريين الأكراد في تركيا، 6 آذار 2018.
[6] عن موقف حزب الاتحاد الديمقراطي من الحركات الشبابية في روجافا خلال عام 2011، انظر مثلاً:
Francesco Desoli, “L’avant – et l’après Kobané: défis et opportunités pour les kurdes de Syrie”, Outre-Terre, 3, 2015.